الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمُشَاهَدَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُشَاهَدَةُ مِعْرِفَةٍ، الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الْمُشَاهَدَةِ تَجْرِي فَوْقَ حُدُودِ الْعِلْمِ، فِي لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ، مُنِيخَةً بِفِنَاءِ الْجَمْعِ. هَذَا بِنَاءً عَلَى أُصُولِ الْقَوْمِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فَوْقَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُمْ هُوَ إِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ، وَلَوْ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ، وَالْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُمْ إِحَاطَةٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ- كَمَا حَدَّهَا الشَّيْخُ- وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا- بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- فَوْقَ الْعِلْمِ، لَكِنْ- عَلَى هَذَا الْحَدِّ- لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ أَلْبَتَّةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَشْرُوطَةً بِمَا ذَكَرُوا، وَسَنَذْكُرُ كَلَامَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ أَعْمَالَ الْأَبْرَارِ بِالْعِلْمِ، وَأَعْمَالَ الْمُقَرَّبِينَ بِالْمَعْرِفَةِ. وَهَذَا كَلَامٌ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ، وَيَبْطُلُ مِنْ وَجْهٍ، فَالْأَبْرَارُ وَالْمُقَرَّبُونَ عَامِلُونَ بِالْعِلْمِ، وَاقِفُونَ مَعَ أَحْكَامِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ الْمُقَرَّبِينَ أَكْمَلُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَبْرَارِ، فَكِلَاهُمَا أَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَلَا يُسْلَبُ الْأَبْرَارُ الْمَعْرِفَةَ، وَلَا يَسْتَغْنِي الْمُقَرَّبُونَ عَنِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا هُمْ عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَجَعَلَهُمْ عَارِفِينَ بِاللَّهِ قَبْلَ إِتْيَانِهِمْ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، بَلْ جَعَلَهُمْ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ عَارِفِينَ بِاللَّهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ كَمَعْرِفَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا. قَوْلُهُ: " فِي لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ " يَعْنِي: أَنَّ شَوَاهِدَ الْمَعْرِفَةِ بَوَارِقٌ تَلُوحُ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ عِنْدَ الشَّيْخِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: وُجُودُ عِلْمٍ، وَوُجُودُ عَيْنٍ، وَوُجُودُ مَقَامٍ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ اللَّوَائِحُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا: تَلُوحُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ، وَقَدْ ذَكَرُوا عَنِ الْجُنَيْدِ، أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ مُبَايِنٌ لِوُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ مُبَايِنٌ لِعِلْمِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَصِحُّ لَهُ الْعِلْمُ بِانْفِرَادِ الْحَقِّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عِلْمًا جَازِمًا، لَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ، وَلَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَسْبَابُ، وَتَقَاذَفَتْ بِهِ أَمْوَاجُهَا لَمْ يَثْبُتْ قَلْبُهُ فِي أَوَائِلِ الصَّدَمَاتِ، وَلَمْ يُبَادِرْ إِذْ ذَاكَ إِلَى رُؤْيَةِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَوَّلِيَّتِهِ؛ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ وَالْمُشَاهَدَةُ الْإِيمَانِيَّةُ، فَهَذَا عَالِمٌ بِالتَّوْحِيدِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَقَامِهِ، وَلَا مُتَّصِفٍ بِحَالٍ أَكْسَبَهُ إِيَّاهَا التَّوْحِيدُ، فَإِذَا وَجَدَ قَلْبَهُ- وَقْتَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَبَايُنِ الْأَسْبَابِ- وَاثِقًا بِرَبِّهِ، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُسْتَغْرِقًا فِي شُهُودِ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ- فَقَدْ وَجَدَ مَقَامَ التَّوْحِيدِ حَالَهُ. وَأَهْلُ هَذَا الْمَقَامِ مُتَفَاوِتُونَ فِي شُهُودِهِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا: مِنْ مُدْرِكٍ لِمَا هُوَ فِيهِ مُتَنَعِّمٍ مُتَلَذِّذٍ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَمِنْ غَالِبٍ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَالُ، وَمِنْ مُسْتَغْرِقٍ غَائِبٍ عَنْ حَظِّهِ وَلَذَّتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ وُجُودِهِ، فَنُورُ الْوُجُودِ قَدْ غَشِيَ مُشَاهَدَتَهُ لِحَالِهِ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، بَلْ قَدْ أَنَاخَ بِفِنَائِهِ، وَالْوُجُودُ عِنْدَهُ هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ، وَيُسَمَّى حَضْرَةَ الْوُجُودِ. قَوْلُهُ: " مُنِيخَةً بِفِنَاءِ الْجَمْعِ " يَعْنِي: قَدْ شَارَفَتْ مُشَاهَدَتُهُ لِحَالِهِ مَنْزِلَ الْجَمْعِ، وَأَنَاخَتْ بِهِ، وَتَهَيَّأَ لِدُخُولِهِ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، فَكَأَنَّهُ مَثَّلَ الْمُشَاهِدَ بِالْمُسَافِرِ، وَمَثَّلَ مُشَاهَدَتَهُ بِنَاقَتِهِ الَّتِي يُسَافِرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا الْحَامِلَةُ لَهُ، وَشَبَّهَ حَضْرَةَ الْجَمْعِ بِالْمَنْزِلِ وَالدَّارِ، وَقَدْ أَنَاخَ الْمُسَافِرُ بِفِنَائِهَا، وَهَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى إِشْرَافِهِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ نُورَ الْوُجُودِ لَا يَلُوحُ إِلَّا مِنْهَا.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُشَاهَدَةُ مُعَايَنَةٍ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، تَقْطَعُ حِبَالَ الشَّوَاهِدِ، وَتَلْبَسُ نُعُوتَ الْقُدْسِ، وَتُخْرِسُ أَلْسِنَةَ الْإِشَارَاتِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، لِأَنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ مُشَاهَدَةُ بَرْقٍ عَنِ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ بِالتَّوْحِيدِ، وَتَمَكَّنَتْ فِي وُجُودِ التَّوْحِيدِ، حَتَّى صَارَ صَاحِبُهَا يَرَى الْأَسْبَابَ كُلَّهَا عَنْ وَاحِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهَا، لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ حَالًا وَذَوْقًا، وَأَنَاخَ بِفِنَاءِ الْجَمْعِ لِيَتَبَوَّأَهُ مَنْزِلًا لِتَوْحِيدِهِ، وَلَكِنَّهُ بَعْدُ لَمْ يُكْمِلِ اسْتِغْرَاقَهُ عَنْ شُهُودِ رَسْمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَشَوَاهِدُ الرُّسُومِ بَعْدُ مَعَهُ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ حِبَالُ الشَّوَاهِدِ، وَتَمَكَّنَ فِي مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَتَطَهَّرَ مِنْ نُعُوتِ النَّفْسِ وَلَبِسَ نُعُوتَ الْقُدْسِ، فَتَطَهَّرَ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ مَشْهُودِهِ، فَحَرَسَ لِذَلِكَ لِسَانَهُ عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ عِنْدَهُ فَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمَعْرَفَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ مِنْ لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ، وَهَذِهِ مُشَاهَدَةُ الْوُجُودِ نَفْسِهِ، لَا بَوَارِقَ نُورِهِ، فَهِيَ أَعْلَى؛ لِأَنَّهَا مُشَاهَدَةُ عِيَانٍ، وَالْعِيَانُ وَالْمُعَايَنَةُ: أَنْ تَقَعَ الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ جَوَّزَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ أَقْبَحَ الْخَطَأِ، وَتَعَدَّى مَقَامَ الرُّسُلِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَارِفُ: مَزِيدُ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ، بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ؛ لِقُوَّةِ يَقِينِهِ وَإِيمَانِهِ بِوُجُودِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ الْأَنْوَارَ وَاللَّوَامِعَ وَالْبَوَارِقَ إِنَّمَا هِيَ أَنْوَارُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ مِنَ الذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا، أَوْ هِيَ أَنْوَارُ اسْتِغْرَاقِهِ فِي مُطَالَعَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِثْبَاتِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا، بِحَيْثُ يَبْقَى كَالْمُعَايِنِ لَهَا، فَيُشْرِقُ عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْمَعْرِفَةِ، فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُوقِعِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ غَلُظَ فِي هَذَا الْبَابِ حِجَابُهُمْ، وَكَثُفَتْ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَرْوَاحُهُمْ، وَقَصُرَتْ عَنْهُ عُلُومُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ، وَلَمْ يَكَادُوا يَظْفَرُونَ بِذَائِقٍ صَحِيحِ الذَّوْقِ يُفَصِّلُ لَهُمْ أَحْكَامَ أَذْوَاقِهِمْ وَمُشَاهَدَتِهِمْ، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا، وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا وَعِلَلَهَا، فَوُجُودُ هَذَا أَعَزُّ شَيْءٍ، وَالْقَوْمُ لَهُمْ طَلَبٌ شَدِيدٌ وَهِمَمٌ عَالِيَةٌ، وَمَطْلَبُهُمْ وَهِمَمُهُمْ- عِنْدَهُمْ- فَوْقَ مَطَالِبِ النَّاسِ وَهِمَمِهِمْ، فَتَشْهَدُ أَرْوَاحُهُمْ مَقَامَاتِ الْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ وَسُفُولِهَا، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي حُظُوظِهِ وَأَحْكَامِ نَفْسِهِ وَطَبِيعَتِهِ، فَلَا تَسْمَحُ نُفُوسُهُمْ بِقَبُولِ قَوْلِهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَلَوْ وَجَدُوا عَارِفًا ذَا قُرْآنٍ وَإِيمَانٍ يُنَادِي الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَتَدُلُّ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، مُحَكِّمًا لِلْوَحْيِ عَلَى الذَّوْقِ، مُسْتَخْرِجًا أَحْكَامَ الذَّوْقِ مِنَ الْوَحْيِ، لَيْسَ فَظًّا وَلَا غَلِيظًا، وَلَا مُدَّعِيًا وَلَا مَحْجُوبًا بِالْوَسَائِلِ عَنِ الْغَايَاتِ، إِشَارَتُهُ دُونَ مَقَامِهِ، وَمَقَامُهُ فَوْقَ إِشَارَتِهِ، إِنْ أَشَارَ أَشَارَ بِاللَّهِ مُسْتَشْهِدًا بِشَوَاهِدِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِاللَّهِ، عَاكِفًا بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ- فَلَوْ وَجَدُوا مِثْلَ هَذَا لَكَانَ الصَّادِقُونَ أَسْرَعَ إِلَيْهِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: " وَقَطْعُ حِبَالِ الشَّوَاهِدِ " شَبَّهَ الشَّوَاهِدَ بِالْحِبَالِ الَّتِي تَجْذِبُ الْعَبْدَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغَيْبَةِ عَنْهُ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْعِيَانِ: انْقَطَعَتْ حِينَئِذٍ حِبَالُ الشَّوَاهِدِ بِحُكْمِ الْمُعَايَنَةِ. قَوْلُهُ: " وَتَلْبَسُ نُعُوتَ الْقُدْسِ " الْقُدْسُ: هُوَ النَّزَاهَةُ وَالطَّهَارَةُ، وَ " نُعُوتُ الْقُدْسِ " هِيَ صِفَاتُهُ، فَيُلْبِسُهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ النُّعُوتِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَاسْتَعَارَ لِذَلِكَ لَفْظَةَ اللُّبْسِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ خِلَعٌ، وَخِلَعُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُلْبِسُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ الْمُوَحِّدُونَ وَالْمُلْحِدُونَ، فَالْمُوَحِّدُ يَعْتَقِدُ: أَنَّ الَّذِي أَلْبَسَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ هُوَ صِفَاتٌ جَمَّلَ اللَّهُ بِهَا ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، وَهِيَ صِفَاتٌ مَخْلُوقَةٌ أُلْبِسَتْ عَبْدًا مَخْلُوقًا، فَكَسَا عَبْدَهُ حُلَّةً مِنْ حُلَلِ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ. وَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: كَسَاهُ نَفْسَ صِفَاتِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، حَتَّى صَارَ شَبِيهًا بِهِ، بَلْ هُوَ هُوَ، وَيَقُولُونَ: الْوُصُولُ هُوَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَبَعْضُهُمْ يُلَطِّفُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَقُولُ: بَلْ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الرَّبِّ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَثَرًا بَاطِلًا " تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ ". وَلَيْسَ هَاهُنَا غَيْرَ التَّعَبُّدِ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ، وَيَخْلُقُهَا لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَالْعَبْدُ مَخْلُوقٌ، وَخِلْعَتُهُ مَخْلُوقَةٌ، وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَائِنٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ خَلْقِهِ، لَا يُمَازِجُهُمْ وَلَا يُمَازِجُونَهُ، وَلَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَحِلُّونَ فِيهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُشَاهَدَةُ جَمْعٍ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُشَاهَدَةِ. تَجْذِبُ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ، رَاكِبَةً بَحْرَ الْوُجُودِ. صَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: أَثْبَتُ- عِنْدَ الشَّيْخِ- فِي مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَأَمْكَنُ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ، الَّذِي هُوَ حَضْرَةُ الْوُجُودِ، وَأَمْلَكُ لِحَمْلِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ فِي مَقَامِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُشُوفَاتِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُشَاهَدَتُهُ مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ؛ أَيْ: تَشْهَدُ لِنَفْسِهَا بِصِحَّةِ وُرُودِهَا إِلَى حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَتَشْهَدُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا لَهَا بِالصِّدْقِ، وَيَشْهَدُ الْمَشْهُودُ أَيْضًا لَهَا بِذَلِكَ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَهَا احْتِمَالُ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ. وَهَذَا أَيْضًا مَوْرِدٌ لِلْمُلْحِدِ وَالْمُوَحِّدِ. فَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: مُشَاهَدَةُ الْجَمْعِ هِيَ مُشَاهَدَةُ الْوُجُودِ الْوَاحِدِ، الْجَامِعِ لِجَمِيعِ الْمَعَانِي وَالصُّوَرِ وَالْقُوَى وَالْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ، وَ " حَضْرَةُ الْجَمْعِ " عِنْدَهُ: هِيَ حَضْرَةُ هَذَا الْوُجُودِ، وَمُشَاهَدَةُ هَذَا الْجَذْبِ تُجْذَبُ إِلَى عَيْنِهِ. قَالَ: وَصِفَةُ هَذَا الْجَذْبِ: أَنْ يُحِلَّ الْحَقُّ تَعَالَى عَقْدَ خَلِيقَتِهِ بِيَدِ حَقِيقَتِهِ، فَيَرْجِعُ النُّورُ الْفَائِضُ عَلَى صُورَةِ خَلِيقَتِهِ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ إِلَى عَدَمِيَّتِهِ، فَيَبْقَى الْوُجُودُ لِلْحَقِّ، وَالْفَنَاءُ لِلْخَلْقِ، وَيُقِيمُ الْحَقُّ تَعَالَى وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ، نَائِبًا عَنْهُ فِي اسْتِجْلَاءِ ذَاتِهِ، فَيَكُونُ الْحَقُّ هُوَ الْمُشَاهِدُ ذَاتَهُ بِذَاتِهِ، فِي طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ مَرْتَبَةُ عَبْدِهِ، فَإِذَا ثَبَّتَ الْحَقُّ تَعَالَى عَبْدَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ وَمَحْوِهِ، وَأَبْقَاهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، فَعَادَ كَمَا يَعُودُ السَّكْرَانُ إِلَى صَحْوِهِ- وَجَدَ فِي ذَاتِهِ أَسْرَارَ رَبِّهِ، وَطَوْرَ صِفَاتِهِ، وَحَقَائِقَ ذَاتِهِ، وَمَعَالِمَ وُجُودِهِ، وَمَطَارِحَ أَشِعَّةِ نُورِهِ، وَوَجَدَ خَلِيقَتَهُ أَسْمَاءَ مُسَمَّى ذَاتِهِ، وَعَوْدِهِ إِلَيْهِ، فَيَرَى الْعَبْدُ ثُبُوتَ ذَلِكَ الِاسْمِ فِي حَضْرَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشِيرَةِ بِدَلَالَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ الْمُنَزَّهِ الْأَصْلِ، الْمُوهِمِ الْفَرْعَ، فَيُؤَدِّي اسْتِصْحَابُ النَّظَرِ إِلَى أَصْلِهِ: أَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يُفَارِقْهُ هُوَ إِلَّا بِشَكْلِهِ. وَالشَّكْلُ- عَلَى اخْتِلَافِ ضُرُوبِهِ- فَمَعْنًى عَدَمِيٌّ لِتَعَيُّنِ إِمْكَانِهِ فِي وُجُوبِهِ. فَانْظُرْ مَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ الصَّرَاحِ، وَجَعْلِ عَيْنِ الْمَخْلُوقِ نَفْسَ عَيْنِ الْخَالِقِ، وَأَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَقَامَ نَفْسَ أَوْصَافِهِ نَائِبَةً عَنْهُ فِي اسْتِجْلَاءِ ذَاتِهِ، وَأَنَّهُ شَاهَدَ ذَاتَهُ بِذَاتِهِ فِي مَرَاتِبِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَحَا مِنْ سُكْرِهِ وَجَدَ فِي ذَاتِهِ حَقَائِقَ ذَاتِ الرَّبِّ، وَوَجَدَ خَلِيقَتَهُ أَسْمَاءَ مُسَمَّى ذَاتِهِ، فَيَرَى ثُبُوتَ ذَلِكَ الِاسْمِ فِي حَضْرَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشِيرَةِ بِدَلَالَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ الْمُنَزَّهِ الْأَصْلِ، يَعْنِي عَنْ الِانْقِسَامِ وَالتَّكَثُّرِ " الْمُوهِمِ الْفَرْعَ " يَعْنِي الَّذِي يُوهِمُ فُرُوعُهُ وَتَكْثُرُ مَظَاهِرُهُ، وَاخْتِلَافُ أَشْكَالِهِ أَنَّهُ مُتَعَدِّدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ وُجُودٌ وَاحِدٌ، وَالْأَشْكَالُ عَلَى اخْتِلَافِ ضُرُوبِهَا أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ، لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَإِمْكَانُهَا يَفْنَى فِي وُجُوبِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا وُجُوبُ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَشْكَالُ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا، وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ. فَالِاتِّحَادِيُّ يُشَاهِدُ وُجُودًا وَاحِدًا، جَامِعًا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ وَالْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ، فَاضَ عَلَيْهَا كُلُّهَا، فَظَهَرَ فِيهَا بِحَسَبِ قَوَابِلِهَا وَاسْتِعْدَادَاتِهَا. وَذَلِكَ الشُّهُودُ يَجْذِبُهُ إِلَى انْحِلَالِ عَزْمِهِ عَنِ التَّقَيُّدِ بِمَعْبُودٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ يَبْقَى مَعْبُودُهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ بِأَيِّ مَعْنًى ظَهَرَ، وَفِي أَيِّ مَاهِيَّةٍ تَحَقَّقَ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْقَوْمِ: وَإِنْ خَرَّ لِلْأَحْجَارِ فِي الْبِيدِ عَاكِـفٌ *** فَلَا تَعْدُ بِالْإِنْكَــارِ بِالْعَصَبِيَّــةِ وَإِنْ عَبَدَ النَّارَ الْمَجُوسُ وَمَا انْطَفَـتْ *** كَمَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مُذْ أَلْفِ حَجَّةِ فَمَا عَبَدُوا غَيْرِي وَمَا كَانَ قَصْدُهُمْ *** سِوَايَ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوا عَقْدَ نِيَّـةِ وَمَا عَقَدَ الزُّنَّارُ حُكْمًا سِوَى يَـدِي *** وَإِنْ حَلَّ بِالْإِقْرَارِ لِي فَهْيَ بَيْعَتِـي وَكَمَا قَالَ عَارِفُهُمْ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ، وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ، فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ، وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ، قَالَ اللَّهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قَالَ: وَمَا قَضَى اللَّهُ شَيْئًا إِلَّا وَقَعَ، وَمَا عُبِدَ غَيْرٌ لِلَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ، فَهَذَا مَشْهَدُ الْمُلْحِدِ. وَالْمُوَحِّدُ يُشَاهِدُ- بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ- ذَاتًا جَامِعَةً لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، لَهَا كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَكُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ، وَذَلِكَ يَجْذِبُهُ إِلَى نَفْسِ اجْتِمَاعِ هَمِّهِ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِفَرَائِضِهِ. وَالطَّرِيقُ- بِمَجْمُوعِهَا- لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ، وَإِنْ طَوَّلُوا الْعِبَارَاتِ، وَدَقَّقُوا الْإِشَارَاتِ، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى جَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ بِغَايَةِ النَّصِيحَةِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، بَعْدَ تَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ، فَلَا تُطَوِّلُ وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْكَ. وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ مُرَادُهُ بِالْجَمْعِ الْجَاذِبِ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ أَمْرٌ آخَرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَمْعِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَعَيْنِ جَمْعِهِمْ، لَا هُوَ هَذَا وَلَا هُوَ هَذَا، فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى الْفَنَاءِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُوَ الْجَمْعُ الَّذِي يُدَنْدِنُ حَوْلَهُ، وَعَيْنُ الْجَمْعِ عِنْدَهُ هُوَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِيَّةِ وَبِالدَّوَامِ، وَبِالْخَلْقِ وَالْفِعْلِ، فَكَانَ وَلَا شَيْءَ، وَيَعُودُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا وُجُودَ فِي الْحَقِيقَةِ لِغَيْرِهِ، وَلَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ، بَلْ وُجُودُ غَيْرِهِ كَالْخَيَالِ وَالظِّلَالِ، وَفِعْلُ غَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ كَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَطَيِّ بِسَاطِ شُهُودِ الْأَكْوَانِ، فَإِذَا ظَهَرَ هَذَا الْحُكْمُ انْمَحَقَ وُجُودُ الْعَبْدِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ، وَتَدْبِيرُهُ فِي تَدْبِيرِ الْحَقِّ، فَصَارَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَشْهُودُ بِوُجُودِ الْعَبْدِ، مُتَلَاشٍ مُضْمَحِلٍّ كَالْخَيَالِ وَالظِّلَالِ. وَلَا يَسْتَعِدُّ لِهَذَا عِنْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ إِرَادَتُهُ عَلَى الْمُرَادِ وَحْدَهُ، حَالًا لَا تَكَلُّفًا، وَطَبْعًا لَا تَطَبُّعًا، فَقَدْ تَنْبَعِثُ الْهِمَّةُ إِلَى أَمْرٍ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، وَصَاحِبُهَا مُعْرِضٌ عَنْ غَيْرِ مَطْلَبِهِ، مُتَحَلٍّ بِهِ، وَلَكِنَّ إِرَادَةَ السِّوَى كَامِنَةٌ فِيهِ، قَدْ تَوَارَى حُكْمُهَا وَاسْتَتَرَ، وَلَمَّا يَزُلْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ اشْتِغَالًا تَامًّا تَوَارَثَ عَنْهُ إِرَادَتَهُ لِغَيْرِهِ، وَالْتِفَاتَهُ إِلَى مَا سِوَاهُ مَعَ كَوْنِهِ كَامِنًا فِي نَفْسِهِ، مَادَّتُهُ حَاضِرَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً وَأَدْنَى تَخَلٍّ مِنْ شَاغِلِهِ، ظَهَرَ حُكْمُ تِلْكَ الْإِرَادَاتِ الَّتِي كَانَ سُلْطَانُ شُهُودِهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِذًا الْجَمْعُ وَعَيْنُ الْجَمْعِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ. أَعْلَاهَا: جَمْعٌ لِهَمٍّ عَلَى اللَّهِ: إِرَادَةً وَمَحَبَّةً وَإِنَابَةً، وَجَمْعُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، دُونَ رُسُومِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ، فَهَذَا جَمْعُ خَوَاصِّ الْمُقَرَّبِينَ وَسَادَاتِهِمْ. وَالثَّانِي: الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِيَّةِ وَالدَّوَامِ، وَأَنَّ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ لَهُ وَحْدَهُ، وَهَذَا الْجَمْعُ دُونَ الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ. وَالثَّالِثُ: جَمْعُ الْمَلَاحِدَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَعَيْنُ جَمْعِهِمْ؛ وَهُوَ جَمْعُ الشُّهُودِ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَعَلَيْكَ بِتَمْيِيزِ الْمَرَاتِبِ؛ لِتَسْلَمَ مِنَ الْمَعَاطِبِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا، فِي آخِرِ بَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: " مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ " أَيْ: ضَامِنَةً لِصِحَّةِ وُرُودِهَا، شَاهِدَةً بِذَلِكَ مَشْهُودًا لَهَا بِهِ، لِأَنَّهَا فَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَفَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ. قَوْلُهُ: " رَاكِبَةً بَحْرَ الْوُجُودِ " يَعْنِي: تِلْكَ الْمُشَاهَدَةَ رَاكِبَةٌ بَحْرَ الْوُجُودِ، فَهِيَ فِي لُجَّةِ بَحْرِهِ لَا فِي أَنْوَارِهِ، وَلَا فِي بَوَارِقِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُرَادِهِ بِالْوُجُودِ وَأَنَّهُ وُجُودُ عِلْمٍ، وَوُجُودُ عَيْنٍ، وَوُجُودُ مَقَامٍ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:(بَابُ الْمُعَايَنَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}. قُلْتُ: الْمُعَايَنَةُ حَقِيقَتُهَا مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعِيَانِ، وَأَصْلُهَا مِنَ الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، يُقَالُ: عَايَنَهُ إِذَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: شَافَهَهُ إِذَا كَلَّمَهُ شِفَاهًا، وَوَاجَهَهُ إِذَا قَابَلَهُ بِوَجْهِهِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ بَشَرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} فَالرُّؤْيَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى نَفْسِ مَدِّ الظِّلِّ، لَا عَلَى الَّذِي مَدَّهُ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} فَهَاهُنَا أَوْقَعَ الرُّؤْيَةَ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ، وَفِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أَوْقَعَهَا فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُرَادُ: فِعْلُهُ مِنْ مَدِّ الظِّلِّ، هَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ بَيِّنٌ مَعْنَاهُ، غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَلَا مُجْمَلٍ، كَمَا قِيلَ فِي الْعُزَّى: كُفْرَانَكَ الْيَوْمَ لَا سُبْحَــانَكَ *** إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَـــكَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، يَقُولُونَ: رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، وَالْمُرَادُ رَأَيْتُ فِعْلَهُ، فَالْعِيَانُ وَالرُّؤْيَةُ: وَاقِعٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا عَلَى ذَاتِ الْفَاعِلِ وَصِفَتِهِ وَلَا فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْمُعَايَنَةُ ثَلَاثٌ دَرَجَاتُ الْمُعَايَنَةِ. إِحْدَاهَا: مُعَايَنَةُ الْأَبْصَارِ. الثَّانِيَةُ: مُعَايَنَةُ عَيْنِ الْقَلْبِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ عَيْنِ الشَّيْءِ عَلَى نَعْتِهِ، عِلْمًا يَقْطَعُ الرَّيْبَةَ، وَلَا تَشُوبُهُ حَيْرَةٌ. الثَّالِثَةُ: مُعَايَنَةُ عَيْنِ الرُّوحِ، وَهِيَ الَّتِي تُعَايِنُ الْحَقَّ عِيَانًا مَحْضًا، وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا طَهُرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَتُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ، وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ. جَعَلَ الشَّيْخُ الْمُعَايَنَةَ لِلْعَيْنِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ مُعَايَنَةٍ مِنْهَا حُكْمًا. فَمُعَايَنَةُ الْعَيْنِ الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الْمُعَايَنَةِ: هِيَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ عِيَانًا، إِمَّا بِانْطِبَاعِ صُورَةِ الْمَرْئِيِّ فِي الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ، عِنْدَ أَصْحَابِ الِانْطِبَاعِ، وَإِمَّا بِاتِّصَالِ الشُّعَاعِ الْمُنْبَسِطِ مِنَ الْعَيْنِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَرْئِيِّ، عِنْدَ أَصْحَابِ الشُّعَاعِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لَا تَخْلُو عَنْ خَطَأٍ وَصَوَابٍ، وَالْحَقُّ شَيْءٌ غَيْرُهَا، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، كَمَا جَعَلَ فِي الْأُذُنِ قُوَّةً سَامِعَةً، وَفِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً نَاطِقَةً وَقُوَّةً ذَائِقَةً، فَهَذِهِ قُوًى أَوْدَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَجَعَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا رَابِطَةً، وَجَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا مِنْ خَارِجٍ، وَمَوَانِعَ تَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ انْطِبَاعٍ، وَمُقَابَلَةٍ، وَشُعَاعٍ، وَنِسْبَةٍ، وَإِضَافَةٍ: فَهُوَ سَبَبٌ وَشَرْطٌ، وَالْمُقْتَضَى هُوَ الْقُوَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْمَحَلِّ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْمَقْصُودُ أَمْرٌ آخَرُ. وَأَمَّا مُعَايَنَةُ الْقَلْبِ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُعَايَنَةِ: فَهِيَ انْكِشَافُ صُورَةِ الْمَعْلُومِ لَهُ، بِحَيْثُ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَلْبَ يُبْصِرُ وَيَعْمَى، كَمَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ وَكَمَا تَعْمَى، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فَالْقَلْبُ يَرَى وَيَسْمَعُ، وَيَعْمَى وَيَصِمُّ، وَعَمَاهُ وَصَمَمُهُ أَبْلَغُ مِنْ عَمَى الْبَصَرِ وَصَمَمِهِ. وَأَمَّا مَا يُثْبِتُهُ مُتَأَخِّرُو الْقَوْمِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ- وَهُوَ رُؤْيَةُ الرُّوحِ، وَسَمْعُهَا وَإِرَادَتُهَا، وَأَحْكَامُهَا، الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ أَحْكَامِ الْقَلْبِ- فَهَؤُلَاءِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا مَعْلُومَةً، وَهِيَ: الْبَدَنُ، وَرُوحُهُ الْقَائِمُ بِهِ، وَالْقَلْبُ الْمُشَاهَدُ فِيهِ، وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالْغَرِيزَةِ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ الَّتِي مَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ إِلَى الْأُذُنِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى تِلْكَ الْقُوَّةُ قَلْبًا، كَمَا تُسَمَّى الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بَصَرًا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وَلَمْ يُرِدْ شَكْلَ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقُوَّةَ وَالْغَرِيزَةَ الْمُودَعَةَ فِيهِ. وَالرُّوحُ: هِيَ الْحَامِلَةُ لِلْبَدَنِ، وَلِهَذِهِ الْقُوَى كُلِّهَا، فَلَا قِوَامَ لِلْبَدَنِ وَلَا لِقُوَاهُ إِلَّا بِهَا، وَلَهَا- بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهَا إِلَى كُلِّ مَحَلٍّ- حُكْمٌ وَاسْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْبَصَرِ سُمِّيَتْ بَصَرًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ السَّمْعِ سُمِّيَتْ سَمْعًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْعَقْلِ- وَهُوَ الْقَلْبُ- سُمِّيَتْ قَلْبًا، وَلَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، هِيَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رُوحٌ. فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ وَالْعَاقِلَةُ وَالسَّامِعَةُ وَالنَّاطِقَةُ رُوحٌ بَاصِرَةٌ وَسَامِعَةٌ وَعَاقِلَةٌ وَنَاطِقَةٌ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الْعَاقِلُ، الْفَاهِمُ الْمُدْرِكُ، الْمُحِبُّ الْعَارِفُ، الْمُحَرِّكُ لِلْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ- هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً وَنَفْسًا لَوَّامَةً، وَنَفْسًا أَمَّارَةً، وَلَيْسَ هُوَ ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ بِالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ هُوَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ لَهَا صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ. وَهُمْ يُشِيرُونَ بِالنَّفْسِ إِلَى الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ، وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فَارَقَتْهُ نَفْسُهُ لَمَاتَ، وَلَكِنْ يُرِيدُونَ تَجَرُّدَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَذْمُومَةِ. وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَلَطَّفَتْ وَفَارَقَتِ الرَّذَائِلَ صَارَتْ رُوحًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تُعْدَمْ، وَيُخْلَقُ لَهُ مَكَانَهَا رُوحٌ لَمْ تَكُنْ، وَلَكِنْ عُدِمَتْ مِنْهَا الصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ، وَصَارَتْ مَكَانَهَا الصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ، فَسُمِّيَتْ رُوحًا. وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مُجَرَّدٌ، وَإِلَّا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا نَفْسًا فِي الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا- أَمَّارَةً، وَلَوَّامَةً، وَمُطْمَئِنَّةً- قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ أَنْفُسِ الْعِبَادِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ، وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ- مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، بَرَّةً أَوْ فَاجِرَةً- كَقَوْلِهِ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ، وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ، وَقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ وَصِفَتِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَانَ كَذَا وَكَذَا فَسَمَّى الْمَقْبُوضَ رُوحًا كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ نَفْسًا وَهَذَا الْمَقْبُوضُ وَالْمُتَوَفَّى شَيْءٌ وَاحِدٌ، لَا ثَلَاثَةٌ وَلَا اثْنَانِ، وَإِذَا قُبِضَ تَبِعَتْهُ الْقُوَى كُلُّهَا الْعَقْلُ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَامِلَ الْجَمِيعِ وَمَرْكَبِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمُعَايَنَةُ نَوْعَانِ: مُعَايَنَةُ بَصَرٍ، وَمُعَايَنَةُ بَصِيرَةٍ، فَمُعَايَنَةُ الْبَصَرِ: وُقُوعُهُ عَلَى نَفْسِ الْمَرْئِيِّ، أَوْ مِثَالِهِ الْخَارِجِيِّ، كَرُؤْيَةِ مِثَالِ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ، وَمُعَايَنَةُ الْبَصِيرَةِ: وُقُوعُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى الْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ الْمُطَابِقِ لِلْخَارِجِيِّ، فَيَكُونُ إِدْرَاكُهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ إِدْرَاكِ الْعَيْنِ لِلصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ، وَقَدْ يَقْوَى سُلْطَانُ هَذَا الْإِدْرَاكِ الْبَاطِنِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهُ، وَيَقْوَى اسْتِحْضَارُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ لِمُدْرِكِهَا، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ فِيهِ، فَيَغْلِبُ حُكْمُ الْقَلْبِ عَلَى حُكْمِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، بِحَيْثُ يَرَاهُ، وَيَسْمَعُ خِطَابَهُ فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ فِي النَّفْسِ وَالذِّهْنِ، لَكِنْ لِغَلَبَةِ الشُّهُودِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ، وَتَمَكُّنِ حُكْمِ الْقَلْبِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقُوَى، صَارَ كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ بِالْعَيْنِ، مَسْمُوعٌ بِالْأُذُنِ، بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ الْمُدْرِكُ وَلَا يَرْتَابُ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقْبَلُ عَذْلًا. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ عِلْمِيَّةٌ تَابِعَةٌ لِلْمُعْتَقِدِ، فَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكَ بِعَيْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، إِنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ شَاهِدَ نُورِ جَلَالِ الذَّاتِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ نُورِ الذَّاتِ الَّذِي لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَهَا لَتَدَكْدَكَتْ، وَلَأَصَابَهَا مَا أَصَابَ الْجَبَلَ، وَكَذَلِكَ شَاهِدُ نُورِ الْعَظَمَةِ فِي الْقَلْبِ، إِنَّمَا هُوَ نُورُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لَا نُورُ نَفْسِ الْمُعَظَّمِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَلَيْسَ مَعَ الْقَوْمِ إِلَّا الشَّوَاهِدُ، وَالْأَمْثِلَةُ الْعِلْمِيَّةُ، وَالرَّقَائِقُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ قُرْبِ الْقَلْبِ مِنَ الرَّبِّ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَحَبَّتِهِ وَذِكْرِهِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنِ اطِّلَاعِ الْبَشَرِ عَلَى ذَاتِهِ، أَوْ أَنْوَارِ ذَاتِهِ، أَوْ صِفَاتِهِ، أَوْ أَنْوَارِ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ الشَّوَاهِدُ الَّتِي تَقُومُ بِقَلْبِ الْعَبْدِ، كَمَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِمَا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَجَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمَّا قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ! إِنِّي أَجِدُ وَاللَّهِ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَهُوَ رَوْضَةٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، لِمَا يَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ شَوَاهِدِ الْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَهُمْ رَأْيُ عَيْنٍ، وَإِذَا قَعَدَ الْمُنَافِقُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَكَانُ فِي حَقِّهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ. فَالْعَمَلُ: إِنَّمَا هُوَ عَلَى الشَّوَاهِدِ، وَعَلَى حَسَبِ شَاهِدِ الْعَبْدِ يَكُونُ عَمَلُهُ. وَنَحْنُ نُشِيرُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ إِلَى الشَّوَاهِدِ، إِشَارَةً يُعْلَمُ بِهَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ. فَأَوَّلُ شَوَاهِدِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ: أَنْ يَقُومَ بِهِ شَاهِدٌ مِنَ الدُّنْيَا وَحَقَارَتِهَا، وَقِلَّةِ وَفَائِهَا، وَكَثْرَةِ جَفَائِهَا، وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا، وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا، وَيَرَى أَهْلَهَا وَعُشَّاقَهَا صَرْعَى حَوْلَهَا، قَدْ بَدَعَتْ بِهِمْ، وَعَذَّبَتْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَأَذَاقَتْهُمْ أَمَرَّ الشَّرَابِ، أَضْحَكَتْهُمْ قَلِيلًا، وَأَبْكَتْهُمْ طَوِيلًا، سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ سُمِّهَا، بَعْدَ كُؤُوسِ خَمْرِهَا، فَسَكِرُوا بِحُبِّهَا، وَمَاتُوا بِهَجْرِهَا. فَإِذَا قَامَ بِالْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْهَا: تَرَحَّلَ قَلْبُهُ عَنْهَا، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَحِينَئِذٍ يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْآخِرَةِ وَدَوَامِهَا، وَأَنَّهَا هِيَ الْحَيَوَانُ حَقًّا، فَأَهْلُهَا لَا يَرْتَحِلُونَ مِنْهَا، وَلَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا، بَلْ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَمَحَطُّ الرِّجَالِ، وَمُنْتَهَى السَّيْرِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟ وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي جِبَالِ الدُّنْيَا. ثُمَّ يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ النَّارِ، وَصْفُهَا وَتَوَقُّدِهَا وَاضْطِرَامِهَا، وَبُعْدِ قَعْرِهَا، وَشِدَّةِ حَرِّهَا، وَعَظِيمِ عَذَابِ أَهْلِهَا، فَيُشَاهِدُهُمْ وَقَدْ سِيقُوا إِلَيْهَا سُودَ الْوُجُوهِ، زُرْقَ الْعُيُونِ، وَالسَّلَاسِلُ وَالْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهَا فُتِحَتْ فِي وُجُوهِهِمْ أَبْوَابُهَا، فَشَاهَدُوا ذَلِكَ الْمَنْظَرَ الْفَظِيعَ، وَقَدْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ حَسْرَةً وَأَسَفًا {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} فَأَرَاهُمْ شَاهِدُ الْإِيمَانِ، وَهُمْ إِلَيْهَا يُدْفَعُونَ، وَأَتَى النِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَيَرَاهُمْ شَاهِدُ الْإِيمَانِ، وَهُمْ فِي الْحَمِيمِ عَلَى وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ، وَفِي النَّارِ كَالْحَطَبِ يُسْجَرُونَ {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} فَبِئْسَ اللِّحَافُ وَبِئْسَ الْفِرَاشُ، وَإِنِ اسْتَغَاثُوا مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} فَإِذَا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ، وَصَهَرَ مَا فِي بُطُونِهِمْ، شَرَابُهُمُ الْحَمِيمُ، وَطَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}. فَإِذَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ: انْخَلَعَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَلَبِسَ ثِيَابَ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ، وَأَخْصَبَ قَلْبَهُ مِنْ مَطَرِ أَجْفَانِهِ، وَهَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُهُ فِي غَيْرِ دِينِهِ وَقَلْبِهِ. وَعَلَى حَسْبِ قُوَّةِ هَذَا الشَّاهِدِ يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ، فَيُذِيبُ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْ قَلْبِهِ الْفَضَلَاتِ، وَالْمَوَادَّ الْمُهْلِكَةَ، وَيُنْضِجُهَا ثُمَّ يُخْرِجُهَا، فَيَجِدُ الْقَلْبُ لَذَّةَ الْعَافِيَةِ وَسُرُورِهَا. فَيَقُومُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: شَاهِدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَصْفُهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَضْلًا عَمَّا وَصَفَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُفَصَّلِ، الْكَفِيلِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ اللَّذَّةِ، مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ وَالصُّوَرِ، وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدُ دَارٍ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الدَّائِمَ بِحَذَافِيرِهِ فِيهَا، تُرْبَتُهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ، وَبِنَاؤُهَا لَبِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَصَبُ اللُّؤْلُؤِ، وَشَرَابُهَا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الْكَافُورِ، وَأَلَذُّ مِنَ الزَّنْجَبِيلِ، وَنِسَاؤُهَا لَوْ بَرَزَ وَجْهُ إِحْدَاهُنَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَغَلَبَ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَلِبَاسُهُمُ الْحَرِيرُ مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَخَدَمُهُمْ وِلْدَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ، وَفَاكِهَتُهُمْ دَائِمَةٌ، لَا مَقْطُوعَةٌ وَلَا مَمْنُوعَةٌ، وَفُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ، وَغِذَاؤُهُمْ لَحْمُ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَشَرَابُهُمْ عَلَيْهِ خَمْرَةٌ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ، وَخُضْرَتُهُمْ فَاكِهَةٌ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَشَاهِدُهُمْ حُورُ عِينٍ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، فَهُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، وَفِي تِلْكَ الرِّيَاضِ يُحْبَرُونَ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى هَذَا الشَّاهِدِ: شَاهِدُ يَوْمِ الْمَزِيدِ، وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ- ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}- ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ. فَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الشَّاهِدُ إِلَى الشَّوَاهِدِ الَّتِي قَبْلَهُ: فَهُنَاكَ يَسِيرُ الْقَلْبُ إِلَى رَبِّهِ أَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ الرِّيَاحِ فِي مَهَابِّهَا، فَلَا يَلْتَفِتُ فِي طَرِيقِهِ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. هَذَا وَفَوْقَ ذَلِكَ: شَاهِدٌ آخَرُ تَضْمَحِلُّ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ، وَيَغِيبُ بِهِ الْعَبْدُ عَنْهَا كُلِّهَا، وَهُوَ شَاهِدُ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَعِزِّهِ وَسُلْطَانِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ وَعُلُوِّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ وَكَلِمَاتِ تَكْوِينِهِ، وَخِطَابِهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ. فَإِذَا شَاهَدَهُ شَاهَدَ بِقَلْبِهِ قَيُّومًا قَاهِرًا فَوْقَ عِبَادِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، آمِرًا نَاهِيًا، مُرْسِلًا رُسُلَهُ، وَمُنْزِلًا كُتُبَهُ، يَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَيَرْحَمُ إِذَا اسْتُرْحِمَ، وَيَغْفِرُ إِذَا اسْتُغْفِرَ، وَيُعْطِي إِذَا سُئِلَ، وَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُقِيلُ إِذَا اسْتُقِيلَ، أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعَزُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَقْدَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْلَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوْ كَانَتْ قُوَى الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى تِلْكَ الْقُوَّةِ، ثُمَّ نُسِبَتْ تِلْكَ الْقُوَى إِلَى قُوَّةِ الْبَعُوضَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ الْأَسَدِ، وَلَوْ قُدِّرَ جَمَالُ الْخَلْقِ كُلُّهُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا كُلُّهُمْ بِذَلِكَ الْجَمَالِ، ثُمَّ نُسِبَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ دُونَ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَلَوْ كَانَ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ كُلُّ الْخَلْقِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، ثُمَّ نُسِبَ إِلَى عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الرَّبِّ كَنَقْرَةِ عُصْفُورٍ فِي بَحْرٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ، كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَسَائِرُ نُعُوتِ كَمَالِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، فَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، سَوَاءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، فَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَالْغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا وَمَجَارِيَ الْقُوتِ فِي أَعْضَائِهَا، يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ، وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَيَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَالْأَرَضِينَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، فَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي كَفِّهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ الْعَبْدِ، وَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ قَامُوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ كَشَفَ الْحِجَابَ عَنْ وَجْهِهِ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. فَإِذَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ: اضْمَحَلَّتْ فِيهِ الشَّوَاهِدُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْدَمَ، بَلْ تَصِيرُ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لِهَذَا الشَّاهِدِ، وَتَنْدَرِجُ فِيهِ الشَّوَاهِدُ كُلُّهَا، وَمِنْ هَذَا شَاهِدُهُ فَلَهُ سُلُوكٌ وَسَيْرٌ خَاصٌّ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ عَنْ هَذَا فِي غَفْلَةٍ، أَوْ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ. فَصَاحِبُ هَذَا الشَّاهِدِ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ وَفِطْرِهِ وَصِيَامِهِ، لَهُ شَأْنٌ وَلِلنَّاسِ شَأْنٌ، هُوَ فِي وَادٍ وَالنَّاسُ فِي وَادٍ. خَلِيلَيَّ لَا وَاللَّهِ مَا أَنَا مِنْكُــمَا *** إِذَا عَلِمَ مِنْ آلِ لَيْلَى بَدَا لِيَا وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعِيَانَ وَالْكَشْفَ وَالْمُشَاهَدَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الشَّوَاهِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى الَّذِي ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ الرُّومِ وَسُورَةِ الشُّورَى، وَهُوَ مَا يَقُومُ بِقُلُوبِ عَابِدِيهِ وَمُحِبِّيهِ، وَالْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الشَّاهِدِ، وَهُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ لَا يَنْحَصِرُ طَرَفَاهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَأَعْظَمُ النَّاسِ حَظًّا فِي ذَلِكَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَ مَا يُثْنِي عَلَيْهِ الْمُثْنُونَ، وَفَوْقَ مَا يَحْمَدُهُ الْحَامِدُونَ، كَمَا قِيلَ: وَمَا بَلَغَ الْمُهْدُونَ نَحْوَكَ مِدْحَــةً *** وَإِنْ أَطْنَبُوا إِنَّ الَّذِي فِيكَ أَعْظَمُ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّ الْحَمْدِ لَا مَبْدَأَ لَهُ *** وَلَا مُنْتَهَى وَاللَّهُ بِالْحَمْدِ أَعْلَـمُ وَطَهَارَةُ الْقَلْبِ، وَنَزَاهَتُهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ، وَالْإِرَادَاتِ السُّفْلِيَّةِ، وَخُلُوِّهِ وَتَفْرِيغِهِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، هُوَ كُرْسِيُّ هَذَا الشَّاهِدِ، الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَمَقْعَدُهُ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ، فَحَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ مُتَلَوِّثٍ بِالْخَبَائِثِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمُرَادَاتِ السَّافِلَةِ أَنْ يَقُومَ بِهِ هَذَا الشَّاهِدُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ. نَزِّهْ فُؤَادَكَ عَنْ سِوَانَا وَائْتِنَـا *** فَجَنَابُنَا حِلٌّ لِكُلِّ مُنَـــزِّهِ وَالصَّبْرُ طِلَّسْمٌ لِكَنْزِ لِقَائِنَــا *** مَنْ حَلَّ ذَا الطِّلَّسْمِ فَازَ بِكَنْزِهِ إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ التَّوْحِيدِ، وَبَاشَرَتْ جَوَانِبُهَا الْأَرْوَاحَ، وَنُورُهَا الْبَصَائِرَ، تَجَلَّتْ بِهَا ظُلُمَاتُ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ، وَتَحَرَّكَتْ بِهَا الْأَرْوَاحُ فِي طَلَبِ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَسَافَرَ الْقَلْبُ فِي بَيْدَاءِ الْأَمْرِ، وَنَزَلَ مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ، مَنْزِلًا مَنْزِلًا، فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، مُقِيمٌ عَلَى مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَزَالُ شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ قَائِمَةً بِقَلْبِهِ، تُوقِظُهُ إِذَا رَقَدَ، وَتُذَكِّرُهُ إِذَا غَفَلَ، وَتَحْدُو بِهِ إِذَا سَارَ، وَتُقِيمُهُ إِذَا قَعَدَ، إِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ رَأَى أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}. إِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ: رَأَى فِي ذَلِكَ الشَّاهِدِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْكُتُبَ وَالشَّرَائِعَ، وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا، وَالْكَرَاهَةَ وَالْبُغْضَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَشَاهَدَ الْأَمْرَ نَازِلًا مِمَّنْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ صَاعِدَةٌ إِلَيْهِ، وَمَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي الْعُقْبَى نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَيَقْدَمُ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ مِنْهَا فَيَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا. وَإِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الرَّحْمَةِ: رَأَى الْوُجُودَ كُلَّهُ قَائِمًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَدْ وَسِعَ مَنْ هِيَ صِفَتُهُ كُلُّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَانْتَهَتْ رَحْمَتُهُ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُ، فَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ؛ لِتَسَعَ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا وَسِعَ عَرْشُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدُ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ: فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ. وَهَكَذَا جَمِيعُ شَوَاهِدِ الصِّفَاتِ، فَمَا ذَكَرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ أَدْنَى تَنْبِيهٍ عَلَيْهَا، فَالْكَشْفُ وَالْعِيَانُ وَالْمُشَاهَدَةُ لَا تَتَجَاوَزُ الشَّوَاهِدَ أَلْبَتَّةَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. فَقَوْلُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّهَا مُعَايَنَةُ عَيْنِ الْقَلْبِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى نَعْتِهِ، يُرِيدُ بِهِ مَعْرِفَتَهُ عَلَى نَعْتِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي الْخَارِجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، فَكَيْفَ بِمَعْرِفَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ وَإِنَّ غَايَةَ الْمَعْرِفَةِ: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ عَلَى نَعْتِهِ عَلَى وَجْهٍ مُجْمَلٍ أَوْ مُفَصَّلٍ تَفْصِيلًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. قَوْلُهُ: " عِلْمًا يَقْطَعُ الرِّيبَةَ، وَلَا يَشُوبُهُ حَيْرَةٌ " هَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَتَى شَابَهَا رِيبَةٌ أَوْ حَيْرَةٌ: لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، كَمَا أَنَّ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ لَوْ شَابَهَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً تَامَّةً، فَالْمَعْرِفَةُ: مَا قَطَعَ الشَّكَّ وَالرِّيبَةَ وَالْوَسْوَاسَ. قَوْلُهُ: وَالْمُعَايَنَةُ الثَّالِثَةُ: عَيْنُ الرُّوحِ الثَّالِثَةِ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُعَايَنَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُعَايِنُ الْحَقَّ عِيَانًا مَحْضًا. إِنْ أَرَادَ بِالْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ- أَيْ: تُعَايِنُ مَا هُوَ حَقٌّ، بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ لَهَا كَمَا يَنْكَشِفُ الْمَرْئِيُّ لِلْبَصَرِ- فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْحَقِّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ كَلَامَهُ عَلَى قُوَّةِ الْيَقِينِ، وَمَزِيدِ الْإِيمَانِ، وَنُزُولِ الرُّوحِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الرَّبَّ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُعَايِنُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ بَصَرٌ وَلَا رُوحٌ، بَلِ الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ: حَظُّ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا طُهِّرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ، لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَتُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ، وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ. يَعْنِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ هَلْ تَفْنَى الْأَرْوَاحُ مَعَ الْجَسَدِ لَا لِلْفَنَاءِ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَ فِيهِ إِلَّا شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ- مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ- الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ تَفْنَى بِفَنَاءِ الْأَبْدَانِ، لِكَوْنِهَا قُوَّةً مِنْ قُوَاهَا، وَعَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِهَا. وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مُنْكِرٌ لِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَالثَّانِي: مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعِيدُ قُوَى الْبَدَنِ وَأَعْرَاضَهُ، وَمِنْهَا: الرُّوحُ فَتَفْنَى بِفَنَاءِ الْأَبْدَانِ، فَلَيْسَ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ رُوحٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، تُسَاكِنُ الْبَدَنَ وَتُفَارِقُهُ، وَتَتَّصِلُ بِهِ وَتَنْفَصِلُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَبْدَانِهَا، لَا تَفْنَى وَلَا تُعْدَمُ، وَأَنَّهَا مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ فِي الْبَرْزَخِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ رُدَّتْ إِلَى أَبْدَانِهَا، فَتُنَعَّمُ مَعَهَا أَوْ تُعَذَّبُ، وَلَا تُعْدَمُ وَلَا تَفْنَى. فَقَوْلُهُ: وَالْأَرْوَاحُ إِذَا طُهِّرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، يُرِيدُ: الْأَرْوَاحَ الطَّاهِرَةَ الزَّكِيَّةَ، وَفِي نُسْخَةٍ: لِتُنَاغِيَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَلْصَقُ بِالْبَابِ الَّذِي تَرْجَمَهُ بِبَابِ الْمُعَايَنَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَضْرَةِ: الْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَبِـ " السَّنَا " النُّورُ الَّذِي يَلْمَعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وَمُعَايَنَةُ ذَلِكَ: إِنَّمَا هُوَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمُعَايِنُ هَاهُنَا: هُوَ نُورُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ. قَوْلُهُ: " وَيُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ " الْبَهَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُسْنُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، يُقَالُ مِنْهُ: بَهِيَ الرَّجُلُ- بِالْكَسْرِ- وَبَهُوَ أَيْضًا. فَهُوَ بَهِيٌّ. وَالْعِزَّةُ حَقِيقَتُهَا يُرَادُ بِهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: عِزَّةُ الْقُوَّةِ، وَعِزَّةُ الِامْتِنَاعِ، وَعِزَّةُ الْقَهْرِ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ الْعِزَّةُ التَّامَّةُ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثِ، وَيُقَالُ مِنَ الْأَوَّلِ: عَزَّ يَعَزُّ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنَ الثَّانِي: عَزَّ يَعِزُّ- بِكَسْرِهَا- وَمِنَ الثَّالِثِ: عَزَّ يَعُزُّ- بِضَمِّهَا- أَعْطُوا أَقْوَى الْحَرَكَاتِ لِأَقْوَى الْمَعَانِي، وَأَخَفَّهَا لِأَخَفِّهَا، وَأَوْسَطَهَا لِأَوْسَطِهَا، وَهَذِهِ الْعِزَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ، إِذِ الشَّرِكَةُ تُنْقِصُ الْعِزَّةَ، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنَافِي كَمَالَ الْعِزَّةِ، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِنَفْيِ أَضْدَادِهَا، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِنَفْيِ مُمَاثَلَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. فَالرُّوحُ تُعَايِنُ- بِقُوَّةِ مَعْرِفَتِهَا وَإِيمَانِهَا- بَهَاءَ الْعِزَّةِ وَجَلَالَهَا وَعَظَمَتَهَا، وَهَذِهِ الْمُعَايَنَةُ هِيَ نَتِيجَةُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ، فَلَا يَطْمَعُ فِيهَا وَاقِفٌ مَعَ أَقْيِسَةِ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَجَدَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَخَيَالَاتِ الْمُتَصَوِّفِينَ. قَوْلُهُ: وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ، هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ؛ أَيْ: جَانِبِ الْحَضْرَةِ، يَعْنِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ- لِقُوَّةِ طَلَبِهَا، وَشِدَّةِ شَوْقِهَا- تَسُوقُ الْقُلُوبَ وَتَجْذِبُهَا إِلَى هُنَاكَ، فَإِنَّ طَلَبَ الرُّوحِ وَسَيْرَهَا أَقْوَى مِنْ طَلَبِ الْقَلْبِ وَسَيْرِهِ، كَمَا كَانَتْ مُعَايَنَتُهَا أَتَمَّ مِنْ مُعَايَنَتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَأَحْكَامُ الرُّوحِ- عِنْدَهُمْ- فَوْقَ أَحْكَامِ الْقَلْبِ، وَأَخَصُّ مِنْهَا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرُّوحَ مَتَى عَايَنَتِ الْحَقَّ جَذَبَتِ الْقُوَى كُلَّهَا وَالْقَلْبُ إِلَى حَضْرَتِهِ، فَيَنْقَادُ مَعَهَا انْقِيادًا بِلَا اسْتِعْصَاءٍ، بِخِلَافِ جَذْبِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْجَوَارِحَ قَدْ تَسْتَعْصِي عَلَيْهِ بَعْضَ الِاسْتِعْصَاءِ، وَتَأْبَى شَيْئًا مِنَ الْإِبَاءِ، وَأَمَّا جَذْبُ الرُّوحِ: فَلَا اسْتِعْصَاءَ مَعَهُ وَلَا إِبَاءَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْحَيَاةِ حَقِيقَتُهَا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}. اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا: مَنْ كَانَ مَيِّتَ الْقَلْبِ بِعَدَمِ رُوحِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ، فَأَحْيَاهُ الرَّبُّ تَعَالَى بِرُوحٍ أُخْرَى غَيْرِ الرُّوحِ الَّتِي أَحْيَا بِهَا بَدَنَهُ، وَهِيَ رُوحُ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ إِذْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ، وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عُدِمَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وَسُمِّيَ وَحْيُهُ رُوحًا، لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رُوحٌ تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَأَنَّهُ نُورٌ تَحْصُلُ بِهِ الْإِضَاءَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} فَالْوَحْيُ حَيَاةُ الرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ حَيَاةُ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا مَنْ فَقَدَ هَذِهِ الرُّوحَ فَقَدْ فَقَدَ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَحَيَاتُهُ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ، وَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ جَهَنَّمُ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَهْلِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ وَسُرُورُهُ بِالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ صَاحِبِهَا، وَلَا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلَّا نَعِيمَ الْجَنَّةِ، كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا. وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ الْقَلْبِ حَيَاةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَيَاةُ الْجَوَارِحِ، فَإِنَّهُ مَلَكَهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهِيَ عَكْسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ. وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، أَعْنِي: دَارَ الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ، وَالْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أَيْضًا تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، فَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، وَالْفُجَّارُ فِي الْجَحِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ ضَامِنٌ لِأَطْيَبِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَالْغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ، وَالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْحَيَاةُ فِي هَذَا الْبَابِ: يُشَارُ بِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، الْحَيَاةُ الْأُولَى: حَيَاةُ الْعِلْمِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفْسُ الْخَوْفِ، وَنَفْسُ الرَّجَاءِ، وَنَفْسُ الْمَحَبَّةِ. قَوْلُهُ " الْحَيَاةُ فِي هَذَا الْبَابِ مَرَاتِبُهَا " يُرِيدُ: الْحَيَاةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْقَوْمُ دُونَ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، بَلْ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَلِلْحَيَاةِ مَرَاتِبُ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، وَقَالَ فِي الْمَاءِ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} وَجَعَلَ هَذِهِ الْحَيَاةَ دَلِيلًا عَلَى الْحَيَاةِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَهَذِهِ حَيَاةٌ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كُلِّ لُغَةٍ، جَارِيَةً عَلَى أَلْسُنِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ: بِشَيْبَةِ الْحَمْدِ أَحْيَا اللَّهُ بَلْدَتَنَــا *** لَمَّا فَقَدْنَا الْحَيَا وَاجْلَوَّزَ الْمَطَرُ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نَذْكُرَ شَوَاهِدَهُ.
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ الَّذِي يَعِيشُ بِالْغِذَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّعُورِ: هَلْ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا تُحِلُّهَا حَيَاةُ النُّمُوِّ وَالْغِذَاءِ، دُونَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، وَلِهَذَا لَا تُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، إِذْ لَوْ أَوْجَبَ لَهَا فِرَاقُ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ النَّجَاسَةَ، لَنَجَسَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِمُفَارَقَتِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الشُّعُورَ لَا تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ.
وَهِيَ إِحْسَاسُهُ وَحَرَكَتُهُ، وَلِهَذَا يَأْلَمُ بِوُرُودِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَيْهِ، وَبِتَفَرُّقِ الِاتِّصَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ فَوْقَ حَيَاةِ النَّبَاتِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ تَقْوَى وَتَضْعُفُ فِي الْحَيَوَانِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ، فَحَيَاتُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ: أَكْمَلُ مِنْهَا وَهُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَحَيَاتُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُعَافَى أَكْمَلُ مِنْهَا وَهُوَ سَقِيمٌ عَلِيلٌ. فَنَفْسُ هَذِهِ الْحَيَاةِ تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا عَظِيمًا فِي مَحَالِّهَا، فَحَيَاةُ الْحَيَّةِ أَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ الْبَعُوضَةِ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدَ كَابَرَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ.
كَحَيَاةِ الْمَلَائِكَةِ، وَحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا لِأَبْدَانِهَا، فَإِنَّ حَيَاتَهَا أَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي، وَلِهَذَا لَا يَلْحَقُهَا كَلَالٌ وَلَا فُتُورٌ، وَلَا نَوْمٌ وَلَا إِعْيَاءٌ، قَالَ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} وَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ إِذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَبْدَانِ، وَتَجَرَّدَتْ: صَارَ لَهَا حَيَاةٌ أُخْرَى أَكْمَلُ مِنْ هَذِهِ إِنْ كَانَتْ سَعِيدَةً، وَإِنْ كَانَتْ شَقِيَّةً كَانَتْ عَامِلَةً نَاصِبَةً فِي الْعَذَابِ.
وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ *** وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُـورُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِـهِمْ *** فَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُـورُ فَإِنَّ الْجَاهِلَ مَيِّتُ الْقَلْبِ ذَمُّ الْجَهْلِ وَالرُّوحِ، وَإِنْ كَانَ حَيَّ الْبَدَنِ فَجَسَدُهُ قَبْرٌ يَمْشِي بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيُحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وَشَبَّهَهُمْ- فِي مَوْتِ قُلُوبِهِمْ- بِأَهْلِ الْقُبُورِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَصَارَتْ أَجْسَامُهُمْ قُبُورًا لَهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ أَصْحَابُ الْقُبُورِ، كَذَلِكَ لَا يَسْمَعُ هَؤُلَاءِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ هِيَ الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ وَمَلْزُومُهُمَا، فَهَذِهِ الْقُلُوبُ لَمَّا لَمْ تُحِسَّ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَلَمْ تَتَحَرَّكْ لَهُ: كَانَتْ مَيْتَةً حَقِيقِةً، وَلَيْسَ هَذَا تَشْبِيهًا لِمَوْتِهَا بِمَوْتِ الْبَدَنِ، بَلْ ذَلِكَ مَوْتُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ، وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْقَطْرِ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهٌ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا، فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً، وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، التَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ الْقِيَامَ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ إِمَامُ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءَ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْوَقْفُ أَصَحُّ. وَالْمَقْصُودُ: قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ فَالْقَلْبُ مَيِّتٌ، وَحَيَاتُهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.
وَضَعْفُ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ: مِنْ ضَعْفِ حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَتَمَّ حَيَاةٍ، كَانَتْ هِمَّتُهُ أَعْلَى وَإِرَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ أَقْوَى، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ تَتْبَعُ الشُّعُورَ بِالْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنَ الْآفَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَضَعْفُ الطَّلَبِ، وَفُتُورُ الْهِمَّةِ إِمَّا مِنْ نُقْصَانِ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِمَّا مِنْ وُجُودِ الْآفَةِ الْمُضْعِفَةِ لِلْحَيَاةِ، فَقُوَّةُ الشُّعُورِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَضَعْفُهَا دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهَا، وَكَمَا أَنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ، وَصِدْقَ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ مِنْ كَمَالِ الْحَيَاةِ: فَهُوَ سَبَبٌ إِلَى حُصُولِ أَكْمَلِ الْحَيَاةِ وَأَطْيَبِهَا، فَإِنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ إِنَّمَا تُنَالُ بِالْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِرَادَةِ الْخَالِصَةِ، فَعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ تَكُونُ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، وَأَخَسُّ النَّاسِ حَيَاةً أَخَسُّهُمْ هِمَّةً، وَأَضْعَفُهُمْ مَحَبَّةً وَطَلَبًا، وَحَيَاةُ الْبَهَائِمِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ. كَمَا قِيلَ: نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَـةٌ *** وَلَيْلُكُ نَوْمٌ وَالــرَّدَى لَكَ لَازِمُ وَتَكْدَحُ فِيمَا سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّـهُ *** كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِــمُ تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَــى *** كَمَا غُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ، وَالنَّاسُ إِذَا شَاهَدُوا ذَلِكَ مِنَ الرَّجُلِ قَالُوا: هُوَ حَيُّ الْقَلْبِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُــوبَ *** وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَـــا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُــوبِ *** وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهُــــا وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُـــو *** كُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَــا وَبَاعُوا النُّفُوسَ وَلَمْ يَرْبَحُــوا *** وَلَمْ يَغْلُ فِي الْبَيْعِ أَثْمَانُهَــــا فَقَدْ رَتَعَ الْقَوْمُ فِي جِيفَــــةٍ *** يَبِينُ لِذِي اللُّبِّ خُسْرَانُهَـــا وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: مَنْ وَاظَبَ عَلَى " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " كَلَّ يَوْمٍ- بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ- أَرْبَعِينَ مَرَّةً أَحْيَى اللَّهُ بِهَا قَلْبَهُ. وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، وَالْغَفْلَةِ الْجَاثِمَةِ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالرَّذَائِلِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ قَرِيبٍ يُضْعِفُ هَذِهِ الْحَيَاةَ، وَلَا يَزَالُ الضَّعْفُ يَتَوَالَى عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَعَلَامَةُ مَوْتِهِ: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَتَدْرُونَ مَنْ مَيِّتُ الْقَلْبِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ *** إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَــاءِ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا. وَالرَّجُلُ: هُوَ الَّذِي يَخَافُ مَوْتَ قَلْبِهِ، لَا مَوْتَ بَدَنِهِ، إِذْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ يَخَافُونَ مَوْتَ أَبْدَانِهِمْ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَوْتِ قُلُوبِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَّا الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ، وَذَلِكَ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ شَبِيهَةٌ بِالظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالنَّبَاتِ السَّرِيعِ الْجَفَافِ، وَالْمَنَامِ الَّذِي يُخَيَّلُ كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ خَيَالًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا- أُوتِيَهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَوْتُ: لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُرُّهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَإِذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْتَ مَوْتَانِ: مَوْتٌ إِرَادِيٌّ، وَمَوْتٌ طَبِيعِيٌّ، فَمَنْ أَمَاتَ نَفْسَهُ مَوْتًا إِرَادِيًّا كَانَ مَوْتُهُ الطَّبِيعِيُّ حَيَاةً لَهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَوْتَ الْإِرَادِيَّ: هُوَ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ، وَإِخْمَادُ نِيرَانِهَا الْمُحْرِقَةِ، وَتَسْكِينُ هَوَائِجِهَا الْمُتْلِفَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَفَرَّغُ الْقَلْبُ وَالرُّوحُ لِلتَّفَكُّرِ فِيمَا فِيهِ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. وَيَرَى حِينَئِذٍ أَنَّ إِيثَارَ الظِّلِّ الزَّائِلِ عَنْ قَرِيبٍ عَلَى الْعَيْشِ اللَّذِيذِ الدَّائِمِ أَخْسَرُ الْخُسْرَانِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الشَّهَوَاتُ وَافِدَةً، وَاللَّذَّاتُ مُؤْثَرَةً، وَالْعَوَائِدُ غَالِبَةً، وَالطَّبِيعَةُ حَاكِمَةً، فَالْقَلْبُ حِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَسِيرًا ذَلِيلًا، أَوْ مَهْزُومًا مُخْرَجًا عَنْ وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِيهِ أَوْ قَتِيلًا مَيِّتًا، وَمَا لِجُرْحٍ بِهِ إِيلَامٌ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي حَرْبٍ، يُدَالُ لَهُ فِيهَا مَرَّةً، وَيُدَالُ عَلَيْهِ مَرَّةً، فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ مَوْتَهُ الطَّبِيعِيَّ، كَانَتْ بَعْدَهُ حَيَاةُ رُوحِهِ بِتِلْكَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَحْوَالِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِإِمَاتَةِ نَفْسِهِ، فَتَكُونُ حَيَاتُهُ هَاهُنَا عَلَى حَسَبِ مَوْتِهِ الْإِرَادِيِّ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا أَلِبَّاءُ النَّاسِ وَعُقَلَاؤُهُمْ، وَلَا يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ إِلَّا أَهْلُ الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ، وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْأَبِيَّةِ.
الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ رَاسِخَةٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا، فَهُوَ لَا يَتَكَلَّفُ التَّرَقِّيَ فِي دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، لِاقْتِضَاءِ أَخْلَاقِهِ وَصِفَاتِهِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَوْ فَارَقَهُ ذَلِكَ لَفَارَقَ مَا هُوَ مِنْ طَبِيعَتِهِ وَسَجِيَّتِهِ، فَحَيَاةُ مَنْ قَدْ طُبِعَ عَلَى الْحَيَاءِ وَالْعِفَّةِ وَالْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ وَنَحْوِهَا أَتَمُّ مِنْ حَيَاةِ مَنْ يَقْهَرُ نَفْسَهُ، وَيُغَالِبُ طَبْعَهُ، حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تُعَارِضُهُ أَسْبَابُ الدَّاءِ وَهُوَ يُعَالِجُهَا وَيَقْهَرُهَا بِأَضْدَادِهَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ. وَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ فِي صَاحِبِهَا أَكْمَلَ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَقْوَى وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَ خَلْقُ الْحَيَاءِ اشْتِقَاقُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَيَاةِ اسْمًا وَحَقِيقَةً، فَأَكْمَلُ النَّاسِ حَيَاةً: أَكْمَلُهُمْ حَيَاءً، وَنُقْصَانُ حَيَاءِ الْمَرْءِ مِنْ نُقْصَانِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ إِذَا مَاتَتْ لَمْ تُحِسَّ بِمَا يُؤْلِمُهَا مِنَ الْقَبَائِحِ، فَلَا تَسْتَحِي مِنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ صَحِيحَةَ الْحَيَاةِ أَحَسَّتْ بِذَلِكَ، فَاسْتَحْيَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْمَمْدُوحَةِ تَابِعَةٌ لِقُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَضِدِّهَا مِنْ نُقْصَانِ الْحَيَاةِ، وَلِهَذَا كَانَتْ حَيَاةُ الشُّجَاعِ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْجَبَانِ، وَحَيَاةُ السَّخِيِّ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْبَخِيلِ، وَحَيَاةُ الْفَطِنِ الذَّكِيِّ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْفَدْمِ الْبَلِيدِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- أَكْمَلَ النَّاسِ حَيَاةً حَتَّى إِنَّ قُوَّةَ حَيَاتِهِمْ تَمْنَعُ الْأَرْضَ أَنْ تُبْلِيَ أَجْسَامَهُمْ- كَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. فَانْظُرِ الْآنَ إِلَى حَيَاةِ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، وَحَيَاةُ جَوَّادٍ شُجَاعٍ، بَرٍّ عَادِلٍ عَفِيفٍ مُحْسِنٍ- تَجِدُ الْأَوَّلَ مَيِّتًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَــاةٍ *** إِذَا مَا عُدَّ مَنْ سَقْطِ الْمَتَـاعِ
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ، الَّذِي تَقَرُّ بِهِ عَيْنُ طَالِبِهِ، فَلَا حَيَاةَ نَافِعَةً لَهُ بِدُونِهِ، وَحَوْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُدَنْدِنُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَخْطَأَ طَرِيقَهَا، وَسَلَكَ طُرُقًا لَا تُفْضِي إِلَيْهَا، بَلْ تَقْطَعُهُ عَنْهَا، إِلَّا أَقَلَّ الْقَلِيلِ. فَدَارَ طَلَبُ الْكُلِّ حَوْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَحُرِمَهَا أَكْثَرُهُمْ. وَسَبَبُ حِرْمَانِهِمْ إِيَّاهَا: ضَعْفُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالْبَصِيرَةِ، وَضَعْفُ الْهِمَّةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ مَادَّتَهَا بَصِيرَةٌ وَقَادَةٌ، وَهِمَّةٌ نَقَّادَةٌ، وَالْبَصِيرَةُ كَالْبَصَرِ تَكُونُ عَمًى وَعَوَرًا وَعَمَشًا وَرَمَدًا، وَتَامَّةَ النُّورِ وَالضِّيَاءِ، وَهَذِهِ الْآفَاتُ قَدْ تَكُونُ لَهَا بِالْخِلْقَةِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ تَحْدُثُ فِيهَا بِالْعَوَارِضِ الْكَسْبِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا، وَلَكِنْ كَيْفَ يَصِلُ إِلَيْهَا مَنْ عَقْلُهُ مَسْبِيٌّ فِي بِلَادِ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِنَاءِ اللَّذَّاتِ، وَسِيرَتُهُ جَارِيَةٌ عَلَى أَسْوَأِ الْعَادَاتِ، وَدِينُهُ مُسْتَهْلَكٌ بِالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ، وَهِمَّتُهُ وَاقِفَةٌ مَعَ السُّفْلِيَّاتِ، وَعَقِيدَتُهُ غَيْرُ مُتَلَقَّاةٍ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّاتِ؟! فَهُوَ فِي الشَّهَوَاتِ مُنْغَمِسٌ، وَفِي الشُّبْهَاتِ مُنْتَكِسٌ، وَعَنِ النَّاصِحِ مُعْرِضٌ، وَعَلَى الْمُرْشِدِ مُعْتَرِضٌ، وَعَنِ السَّرَّاءِ نَائِمٌ، وَقَلْبُهُ فِي كُلِّ وَادٍ هَائِمٌ، فَلَوْ أَنَّهُ تَجَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ، وَرَغِبَ عَنْ مُشَارَكَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَخَرَجَ مِنْ ضِيقِ الْجَهْلِ إِلَى فَضَاءِ الْعِلْمِ، وَمِنْ سِجْنِ الْهَوَى إِلَى سَاحَةِ الْهُدَى، وَمِنْ نَجَاسَةِ النَّفْسِ، إِلَى طَهَارَةِ الْقُدْسِ لَرَأَى الْإِلْفَ الَّذِي نَشَأَ بِنَشْأَتِهِ، وَزَادَ بِزِيَادَتِهِ، وَقَوِيَ بِقُوَّتِهِ، وَشَرُفَ عِنْدَ نَفْسِهِ وَأَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِحُصُولِهِ، وَسَدِّ قَذًى فِي عَيْنِ بَصِيرَتِهِ، وَشَجَا فِي حَلْقِ إِيمَانِهِ، وَمَرَضًا مُتَرَامِيًا إِلَى هَلَاكِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَشَرْتَ إِلَى حَيَاةٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ بَيْنَ أَمْوَاتِ الْأَحْيَاءِ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ وَصْفُ طَرِيقِهَا، لِأَصِلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِهَا، فَقَدْ بَانَ لِيَ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ بَهِيمِيَّةٌ، رُبَّمَا زَادَتْ عَلَيْنَا فِيهِ الْبَهَائِمُ بِخُلُوِّهَا عَنِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ وَسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ؟ قُلْتُ: لَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ اشْتِيَاقَكَ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَطَلَبَ عِلْمِهَا وَمَعْرِفَتِهَا: لَدَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِكَ، وَأَنَّكَ لَسْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ. فَأَوَّلُ طَرِيقِهَا: أَنْ تَعْرِفَ اللَّهَ، وَتَهْتَدِيَ إِلَيْهِ طَرِيقًا يُوَصِّلُكَ إِلَيْهِ، وَيُحْرِقُ ظُلُمَاتِ الطَّبْعِ بِأَشِعَّةِ الْبَصِيرَةِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ، فَيَنْجَذِبُ إِلَيْهَا بِكُلِّيَّتِهِ، وَيَزْهَدُ فِي التَّعَلُّقَاتِ الْفَانِيَةِ، وَيَدْأَبُ فِي تَصْحِيحِ التَّوْبَةِ، وَالْقِيَامِ بِالْمَأْمُورَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، ثُمَّ يَقُومُ حَارِسًا عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يُسَامِحُهُ بِخَطْرَةٍ يَكْرَهُهَا اللَّهُ، وَلَا بِخَطْرَةِ فُضُولٍ لَا تَنْفَعُهُ، فَيَصْفُو بِذَلِكَ قَلْبُهُ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَوَسْوَاسِهَا، فَيُفْدَى مِنْ أَسْرِهَا، وَيَصِيرُ طَلِيقًا، فَحِينَئِذٍ يَخْلُو قَلْبُهُ بِذِكْرِ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ بُيُوتِ طَبْعِهِ وَنَفْسِهِ، إِلَى فَضَاءِ الْخُلْوَةِ بِرَبِّهِ وَذِكْرِهِ، كَمَا قِيلَ: وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِـي *** أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ فِي السِّرِّ خَالِيًا فَحِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ وَخَوَاطِرُهُ وَحَدِيثُ نَفْسِهِ عَلَى إِرَادَةِ رَبِّهِ، وَطَلَبِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ. فَإِذَا صَدَقَ فِي ذَلِكَ رُزِقَ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَوْلَتْ رُوحَانِيَّتُهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَجَعَلَهُ إِمَامَهُ وَمُعَلِّمَهُ، وَأُسْتَاذَهُ وَشَيْخَهُ وَقُدْوَتَهُ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ وَهَادِيًا إِلَيْهِ، فَيُطَالِعُ سِيرَتَهُ وَمَبَادِئَ أَمْرِهِ، وَكَيْفِيَّةَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفُ صِفَاتِهُ وَأَخْلَاقَهُ، وَآدَابَهُ فِي حَرَكَاتِهِ وَسُكُونِهِ وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَعِبَادَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَعَهُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ. فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ بِفَهْمِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ بِفَهْمِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَأَ السُّورَةَ شَاهَدَ قَلْبُهُ مَا أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهَا، وَحَظَّهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ مِنْهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا كَمَا يَجْتَهِدُ فِي الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ، وَشَاهَدَ حَظَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمَمْدُوحَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِي تَكْمِيلِهَا وَإِتْمَامِهَا. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ انْفَتَحَ فِي قَلْبِهِ عَيْنٌ أُخْرَى، يُشَاهِدُ بِهَا صِفَاتِ الرَّبِّ وَمُشَاهَدَةُ الْعَبْدِ لَهَا حَتَّى تَصِيرَ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ لِعَيْنِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، حَتَّى تَصِيرَ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ لِعَيْنِهِ، فَيَشْهَدُ عُلُوَّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَنُزُولَ الْأَمْرِ مِنْ عِنْدِهِ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وَتَكْلِيمَهُ بِالْوَحْيِ، وَتَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ جِبْرِيلَ بِهِ، وَإِرْسَالَهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ، وَصُعُودَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهَا عَلَيْهِ. فَيُشَاهِدُ قَلْبُهُ رَبًّا قَاهِرًا فَوْقَ عِبَادِهِ، آمِرًا نَاهِيًا، بَاعِثًا لِرُسُلِهِ، مُنْزِلًا لِكُتُبِهِ، مَعْبُودًا مُطَاعًا، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مَثِيلَ، وَلَا عَدْلَ لَهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ، فَيَشْهَدُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ قَائِمًا بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَا حَرَكَةَ وَلَا سُكُونَ، وَلَا نَفْعَ وَلَا ضَرَّ، وَلَا عَطَاءَ وَلَا مَنْعَ، وَلَا قَبْضَ وَلَا بَسْطَ إِلَّا بِقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَيَشْهَدُ قِيَامَ الْكَوْنِ كُلِّهِ بِهِ، وَقِيَامَهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ. فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ شَهِدَ الصِّفَةَ الْمُصَحِّحَةَ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي كَمَالُهَا يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَصِفَةَ الْقَيُّومِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَحِّحَةِ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ، فَالْحَيُّ الْقَيُّومُ: مَنْ لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ. فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ: فَتَحَ لَهُ مَشْهَدَ الْقُرْبِ وَالْمَعِيَّةِ فَيَشْهَدُهُ سُبْحَانَهُ مَعَهُ، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهُ، قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ، مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، قَائِمًا بِالصُّنْعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فَيَحْصُلُ لَهُ- مَعَ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ- الْأُنْسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَأْنَسُ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَوْحِشًا، وَيَقْوَى بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَيَفْرَحُ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَزِينًا، وَيَجِدُ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَاقِدًا، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ طَعْمَ قَوْلِهِ: " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ". فَأَطْيَبُ الْحَيَاةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَيَاةُ هَذَا الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مُحِبٌّ مَحْبُوبٌ، مُتَقَرِّبٌ إِلَى رَبِّهِ، وَرَبُّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، قَدْ صَارَ لَهُ حَبِيبُهُ لِفَرْطِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَلَهَجِهِ بِذِكْرِهِ وَعُكُوفِ هِمَّتِهِ عَلَى مَرْضَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَهَذِهِ آلَاتُ إِدْرَاكِهِ وَعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِحَبِيبِهِ، وَإِنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وَإِنْ مَشَى مَشَى بِهِ. فَإِنْ صَعُبَ عَلَيْكَ فَهْمُ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَوْنُ الْمُحِبِّ الْكَامِلِ الْمَحَبَّةِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَبْطِشُ وَيَمْشِي بِمَحْبُوبِهِ، وَذَاتُهُ غَائِبَةٌ عَنْهُ، فَاضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا، وَخَلِّ هَذَا الشَّأْنَ لِأَهْلِهِ. خَلِّ الْهَوَى لِأُنَاسٍ يُعْرَفُونَ بِهِ *** قَدْ كَابَدُوا الْحُبَّ حَتَّى لَانَ أَصْعَبُهُ فَإِنَّ السَّالِكَ إِلَى رَبِّهِ لَا تَزَالُ هِمَّتُهُ عَاكِفَةً عَلَى أَمْرَيْنِ؛ اسْتِفْرَاغُ الْقَلْبِ فِي صِدْقِ الْحُبِّ، وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْدُوَ عَلَى سِرِّهِ شَوَاهِدُ مَعْرِفَتِهِ، وَآثَارُ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَلَكِنْ يَتَوَارَى عَنْهُ ذَلِكَ أَحْيَانًا، وَيَبْدُو أَحْيَانًا، يَبْدُو مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَيَتَوَارَى بِحُكْمِ الْفَتْرَةِ، وَالْفَتَرَاتُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ، فَكُلُّ عَامِلٍ لَهُ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٌ فَتْرَةٌ، فَأَعْلَاهَا فَتْرَةُ الْوَحْيِ؛ وَهِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَفَتْرَةُ الْحَالِ الْخَاصِّ لِلْعَارِفِينَ، وَفَتْرَةُ الْهِمَّةِ لِلْمُرِيدِينَ، وَفَتْرَةُ الْعَمَلِ لِلْعَابِدِينَ، وَفِي هَذِهِ الْفَتَرَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّعَرُّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعْمَةِ، وَتَجْدِيدِ الشَّوْقِ إِلَيْهَا، وَمَحْضِ التَّوَاجُدِ إِلَيْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا تَزَالُ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ تَتَكَرَّرُ وَتَتَزَايَدُ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ، وَيَنْصَبِغَ بِهَا قَلْبُهُ، وَتَصِيرُ الْفَتْرَةُ غَيْرَ قَاطِعَةٍ لَهُ، بَلْ تَكُونُ نِعْمَةً عَلَيْهِ، وَرَاحَةً لَهُ، وَتَرْوِيحًا وَتَنْفِيسًا عَنْهُ. فَهِمَّةُ الْمُحِبِّ إِذَا تَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِحَبِيبِهِ، عَاكِفًا عَلَى مَزِيدِ مَحَبَّتِهِ، وَأَسْبَابِ قُوَّتِهَا، فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى هَذَا، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْهُ إِلَى طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ، فَيَعْمَلُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ، وَلَا يُعْدَمُ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ، وَلَا يُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَنْدَرِجُ فِي هَذَا الطَّلَبِ الثَّانِي، فَتَتَعَلَّقُ هِمَّتُهُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ مَنْزِلَةُ " كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ " بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي، وَهُوَ كَوْنُهُ مَحْبُوبًا لِحَبِيبِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ " إِلَخْ، فَهُوَ يَتَقَرَّبُ إِلَى رَبِّهِ حِفْظًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَاسْتِدْعَاءً لِمَحَبَّةِ رَبِّهِ لَهُ. فَحِينَئِذٍ يَشُدُّ مِئْزَرَ الْجِدِّ فِي طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ بِأَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، فَقَلْبُهُ؛ لِلْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَلِسَانُهُ؛ لِلذِّكْرِ وَتِلَاوَةِ كَلَامِ حَبِيبِهِ، وَجَوَارِحُهُ: لِلطَّاعَاتِ، فَهُوَ لَا يَفْتُرُ عَنِ التَّقَرُّبِ مِنْ حَبِيبِهِ. وَهَذَا هُوَ السَّيْرُ الْمُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقِ، وَحِينَئِذٍ تُجْمَعُ لَهُ فِي سَيْرِهِ جَمِيعُ مُتَفَرِّقَاتِ السُّلُوكِ مِنَ الْحُضُورِ وَالْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَنَفْيِ الْخَوَاطِرِ وَتَخْلِيَةِ الْبَاطِنِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَشْرَعُ- أَوَّلًا- فِي التَّقَرُّبَاتِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ ظَاهِرُ التَّقَرُّبِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْ ذَلِكَ إِلَى حَالِ التَّقَرُّبِ، وَهُوَ الِانْجِذَابُ إِلَى حَبِيبِهِ بِكُلِّيَّتِهِ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ، وَعَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْ ذَلِكَ إِلَى حَالِ الْإِحْسَانِ، فَيَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِهِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْخَشْيَةِ، فَيَنْبَعِثُ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِهِ الْجُودُ بِبَذْلِ الرُّوحِ وَالْجُودُ فِي مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ، فَيَجُودُ بِرُوحِهِ وَنَفْسِهِ، وَأَنْفَاسِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَعْمَالِهِ لِحَبِيبِهِ حَالًا لَا تَكَلُّفًا، فَإِذَا وَجَدَ الْمُحِبُّ ذَلِكَ فَقَدْ ظَفِرَ بِحَالِ التَّقَرُّبِ وَسِرِّهِ وَبَاطِنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ يَتَقَرَّبُ بِلِسَانِهِ وَبَدَنِهِ وَظَاهِرِهِ فَقَطْ، فَلْيَدُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلْيَتَكَلَّفِ التَّقَرُّبَ بِالْأَذْكَارِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى الدَّوَامِ، فَعَسَاهُ أَنْ يَحْظَى بِحَالِ الْقُرْبِ. وَوَرَاءَ هَذَا الْقُرْبِ الْبَاطِنِ أَمْرٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْ عِبَارَةِ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ يَقُولُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً فَيَجِدُ هَذَا الْمُحِبُّ فِي بَاطِنِهِ ذَوْقَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَوْقًا حَقِيقِيًّا. فَذَكَرَ مِنْ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ ثَلَاثَةً، وَنَبَّهَ بِهَا عَلَى مَا دُونَهَا وَمَا فَوْقَهَا. فَذَكَرَ تَقَرُّبَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ بِالْبِرِّ، وَتَقَرُّبَهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ ذِرَاعًا، فَإِذَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ هَذَا التَّقَرُّبِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَقَرُّبِ الذِّرَاعِ، فَيَجِدُ ذَوْقَ تَقَرُّبِ الرَّبِّ إِلَيْهِ بَاعًا. فَإِذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الْقُرْبِ الثَّانِي أَسْرَعَ الْمَشْيَ حِينَئِذٍ إِلَى رَبِّهِ، فَيَذُوقُ حَلَاوَةَ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ هَرْوَلَةً، وَهَاهُنَا مُنْتَهَى الْحَدِيثِ، مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا هَرْوَلَ عَبْدُهُ إِلَيْهِ كَانَ قُرْبُ حَبِيبِهِ مِنْهُ فَوْقَ هَرْوَلَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ لِعَظِيمِ شَاهِدِ الْجَزَاءِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَوْ إِحَالَةً لَهُ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَقِسْ عَلَى هَذَا، فَعَلَى قَدْرِ مَا تَبْذُلُ مِنْكَ مُتَقَرِّبًا إِلَى رَبِّكَ يَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَازِمُ هَذَا التَّقَرُّبِ الْمَذْكُورِ فِي مَرَاتِبِهِ؛ أَيْ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى حَبِيبِهِ بِرُوحِهِ وَجَمِيعِ قُوَاهُ، وَإِرَادَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تَقَرَّبَ الرَّبُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ تَقَرُّبِ عَبْدِهِ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ الْقُرْبُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ كُلِّهَا قُرْبَ مَسَافَةٍ حِسِّيَّةٍ وَلَا مُمَاسَّةٍ، بَلْ هُوَ قُرْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَالرَّبُّ تَعَالَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَالْعَبْدُ فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ سِرُّ السُّلُوكِ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُصُولِ الَّذِي يُدَنْدِنُ حَوْلَهُ الْقَوْمُ. وَمَلَاكُ هَذَا الْأَمْرِ هُوَ قَصْدُ التَّقَرُّبِ أَوَّلًا، ثُمَّ التَّقَرُّبُ ثَانِيًا، ثُمَّ حَالُ الْقُرْبِ ثَالِثًا، وَهُوَ الِانْبِعَاثُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَبِيبِ. وَحَقِيقَةُ هَذَا الِانْبِعَاثِ: أَنْ تَفْنَى بِمُرَادِهِ عَنْ هَوَاكَ، وَبِمَا مِنْهُ عَنْ حَظِّكَ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ هُوَ مَجْمُوعُ حَظِّكَ وَمُرَادِكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى حَبِيبِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِقُرْبٍ هُوَ أَضْعَافُهُ، وَعَرَفْتَ أَنَّ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ تَقَرُّبُ الْعَبْدِ بِجُمْلَتِهِ- بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَبِوُجُودِهِ- إِلَى حَبِيبِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَقَرَّبَ بِكُلِّهِ، وَلَمْ تَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِ حَبِيبِهِ، كَمَا قِيلَ: لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّـةٌ *** يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ الْعُذَّلُ وَإِذَا كَانَ الْمُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ يُعْطِي أَضْعَافَ أَضْعَافَ مَا تُقُرِّبَ بِهِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أُعْطِيَ حَالَ التَّقَرُّبِ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ؟ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ، وَجَمِيعِ إِرَادَتِهِ وَهِمَّتِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ؟ وَعَلَى هَذَا فَكَمَا جَادَ لِحَبِيبِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُجَادَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَكُونَ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ، عِوَضًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، جَزَاءً وِفَاقًا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَزَاءَيْنِ كَمَا تَرَى، وَجَعَلَ جَزَاءَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ حَسْبَهُ وَكَافِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهِيدَ لَمَّا بَذَلَ حَيَاتَهُ لِلَّهِ أَعَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيَاةً أَكْمَلَ مِنْهَا عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ قُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ بَذَلَ لِلَّهِ شَيْئًا أَعَاضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا الْحَدِيثَ. فَالْعَبْدُ لَا يَزَالُ رَابِحًا عَلَى رَبِّهِ أَفْضَلَ مِمَّا قَدَّمَ لَهُ، وَهَذَا الْمُتَقَرِّبُ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَعَمَلِهِ يَفْتَحُ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِحَيَاةٍ لَا تُشْبِهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ، بَلْ حَيَاةُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاتِهِ، كَحَيَاةِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَذَّتِهِمْ فِيهَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَهَذَا نَمُوذَجُ مَنْ بَايَنَ شَرَفَ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفَضْلَهَا، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ هَذَا يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَكَيْفَ إِنِ انْصَبَغَ الْقَلْبُ بِهِ، وَصَارَ حَالًا مُلَازِمًا لِذَاتِهِ؟ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَهَذِهِ الْحَيَاةُ: هِيَ حَيَاةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَنْ فَقَدَهَا فَفَقْدُهُ لِحَيَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْلَى بِهِ. هَذِي حَيَاةُ الْفَتَى فَإِنْ فُقِدَتْ *** فَفَقْدُهُ لِلْحَيَاةِ أَلْيَقُ بِــهِ فَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْمُحِبِّينَ، الَّذِينَ قَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ بِحَبِيبِهِمْ، وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهِ، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِهِ، وَاسْتَأْنَسُوا بِقُرْبِهِ، وَتَنَعَّمُوا بِحُبِّهِ، فَفِي الْقَلْبِ فَاقَةٌ لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ: فَحَيَاتُهُ كُلُّهَا هُمُومٌ وَغُمُومٌ، وَآلَامٌ وَحَسَرَاتٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، فَإِنَّ هِمَّتَهُ لَا تَرْضَى فِيهَا بِالدُّونِ وَإِنْ كَانَ مَهِينًا خَسِيسًا، فَعَيْشُهُ كَعَيْشِ أَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ، فَلَا تَقَرُّ الْعُيُونُ إِلَّا بِمَحَبَّةِ الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ. نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَـوَى *** مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَــى *** وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْــزِلِ
وَخَلَاصِهَا مِنْ هَذَا السِّجْنِ وَضِيقِهِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ فَضَاءً وَرَوْحًا وَرَيْحَانًا وَرَاحَةً، نِسْبَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ بَطْنِ الْأُمِّ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لِتَكُنْ مُبَادَرَتُكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا كَمُبَادَرَتِكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ الضَّيِّقِ إِلَى أَحِبَّتِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِي الْبَسَاتِينِ الْمُونِقَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}. وَيَكْفِي فِي طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ: مُرَافَقَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمُفَارَقَةُ الرَّفِيقِ الْمُؤْذِي الْمُنَكِّدِ، الَّذِي تُنَغِّصُ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ الْحَيَاةَ، فَضْلًا عَنْ مُخَالَطَتِهِ وَعِشْرَتِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَدْ قُلْتُ إِذْ مَدَحُوا الْحَيَاةَ فَأَسْرَفُوا *** فِي الْمَوْتِ أَلْفُ فَضِيلَةٍ لَا تُعْرَفُ مِنْهَا أَمَانُ لِقَــــائِهِ بِلِقَائِــهِ *** وَفِرَاقُ كُلِّ مُعَاشِرٍ لَا يُنْصِـفُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْتِ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ بَابُ الدُّخُولِ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَجِسْرٌ يُعْبَرُ مِنْهُ إِلَيْهَا: لَكَفَى بِهِ تُحْفَةً لِلْمُؤْمِنِ. جَزَى اللَّهُ عَنَّا الْمَوْتَ خَيْــرًا فَإِنَّهُ *** أَبَرُّ بِنَا مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَأَلْطَــفُ يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُـوسِ مِنَ الْأَذَى *** وَيُدْنِي إِلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ فَالِاجْتِهَادُ فِي هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، وَالْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ، وَالسَّعْيِ وَالْكَدْحِ، وَتَحَمُّلِ الْأَثْقَالِ، وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَهِيَ يَقَظَةٌ، وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْحَيَاةِ نَوْمٌ، وَهِيَ عَيْنٌ، وَمَا قَبْلَهَا أَثَرٌ، وَهِيَ حَيَاةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ فَقْدِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَحْبُوبِ فِي مَقَامِ الْأُنْسِ، وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، حَيْثُ لَا يَتَعَذَّرُ مَطْلُوبٌ، وَلَا يُفْقَدُ مَحْبُوبٌ؛ حَيْثُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ، وَالْبَهْجَةُ وَالسُّرُورُ، حَيْثُ لَا عِبَارَةَ لِلْعَبْدِ عَنْ حَقِيقَةِ كُنْهِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي بَلَدٍ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ، وَلَا إِلْفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَاكِنِهِ، فَالنَّفْسُ- لِإِلْفِهَا لِهَذَا السِّجْنِ الضَّيِّقِ النَّكِدِ زَمَانًا طَوِيلًا- تَكْرَهُ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ مُفَارَقَتَهُ. وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْنَا بِخَبَرٍ إِلَهِيٍّ عَلَى يَدِ أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَنْصَحِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَتْ شَوَاهِدُهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ، فَفَرَّتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ هَذَا الظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالْخَيَالِ الْمُضْمَحِلِّ، وَالْعَيْشِ الْفَانِي الْمَشُوبِ بِالتَّنْغِيصِ وَأَنْوَاعِ الْغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَشَوْقًا إِلَى ذَلِكَ الْمَلَكُوتِ، وَوَجْدًا بِهَذَا السُّرُورِ، وَطَرَبًا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَاشْتِيَاقًا لِهَذَا النَّسِيمِ الْوَارِدِ مِنْ مَحَلِّ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ مَنْ سَافَرَ إِلَى بَلَدِ الْعَدْلِ وَالْخِصْبِ وَالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ صَبَرَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى كُلِّ مَشَقَّةٍ وَإِعْوَازٍ وَجَدْبٍ، وَفَارَقَ الْمُتَخَلِّفِينَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَابَ الْمُنَادِي إِذَا نَادَى بِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ بَذْلَ الْمُحِبِّ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ، وَوَاصَلَ السَّيْرَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، فَحَمِدَ عِنْدَ الْوُصُولِ مَسْرَاهُ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْمُسَافِرُ السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ. عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى *** وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ اللِّقَا وَمَا هَذَا- وَاللَّهِ- بِالصَّعْبِ وَلَا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ- يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ وَالْحِجَارَةَ- إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَلَا غَبْنًا فِي جَنْبِ مَا يُوَقَّاهُ. فَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى بَصِيرَةٍ شَاهَدَتْ هَاتَيْنِ الْحَيَاتَيْنِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ، وَمِنْهُ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ، أَقْعَدَ نُفُوسَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، وَجَذَبَ قُلُوبَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى، وَأَقَامَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ الْأَخْطَارِ، فَأَضَاعَ أُولَئِكَ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ وَقَطَعَ هَؤُلَاءِ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ السَّائِرِينَ، وَعُقِدَتِ الْغَبَرَةُ وَثَارَ الْعَجَاجُ، فَتَوَارَى عَنْهُ السَّائِرُونَ وَالْمُتَخَلِّفُونَ. وَسَيَنْجَلِي عَنْ قَرِيبٍ، فَيَفُوزُ الْعَامِلُونَ، وَيَخْسِرُ الْمُبْطِلُونَ. وَمِنْ طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ- لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ- يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، لِمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ يَعْنِي لِيُقْتَلَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى. وَسَمِعَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ: إِنَّمَا الْعَيْشُ فِي بَهِيمِــيَّةِ اللَّــ *** ذَةِ وَهُوَ مَا يَقُولُهُ الْفَلْسَفِـيُّ حُكْمُ كَأْسِ الْمَنُونِ أَنْ يَتَسَـاوَى *** فِي حِسَاهَا الْبَلِيدُ وَالْأَلْمَعِــيُّ وَيَصِيرُ الْغَبِيُّ تَحْتَ ثَــرَى الْأَرْ *** ضِ كَمَا صَارَ تَحْتَهَا اللَّوْذَعِيُّ فَسَلِ الْأَرْضَ عَنْهُمَا إِنْ أَزَالَ الشَّـ *** كَّ وَالشُّبْهَةَ السُّؤَالُ الْجَلِـيُّ فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، مَا أَشَدَّ مُعَانَدَتَهُ لِلدِّينِ وَالْعَقْلِ! هَذَا نَفْسُ عَدُوِّ الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، يَا مِسْكِينُ أَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَوْتَ تَسَاوَى فِيهِ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَصَارُوا جَمِيعًا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، أَيَجِبُ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْعَاقِبَةِ؟ أَمَا تَسَاوَى قَوْمٌ سَافَرُوا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي الطَّرِيقِ؟ فَلَمَّا بَلَغُوا الْقَصْدَ نَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانٍ كَانَ مُعَدًّا لَهُ، وَتُلُقِّي بِغَيْرِ مَا تُلُقِّيَ بِهِ رَفِيقُهُ فِي الطَّرِيقِ؟ أَمَا لِكُلِّ قَوْمٍ دَارٌ فَأُجْلِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ؟ وَقُوبِلَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَهَذَا بِضِدِّهِ؟ أَمَا قَدِمَ عَلَى الْمَلِكِ مَنْ جَاءَهُ بِمَا يُحِبُّهُ فَأَكْرَمَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ جَاءَهُ بِمَا يُسْخِطُهُ فَعَاقَبَهُ عَلَيْهِ؟ أَمَا قَدِمَ رَكْبُ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بَعْضُهُمْ فِي قُصُورِهَا وَبَسَاتِينِهَا وَأَمَاكِنِهَا الْفَاضِلَةِ، وَنَزَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْكِلَابِ؟ أَمَا قَدِمَ اثْنَانِ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ الْوَاحِدَةِ، فَصَارَ هَذَا إِلَى الْمُلْكِ، وَهَذَا إِلَى الْأَسْرِ وَالْعَنَاءِ؟ وَقَوْلُكَ " سَلِ الْأَرْضَ عَنْهُمَا " أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَاهَا، فَأَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا قَدْ ضَمَّتْ أَجْسَادَهُمْ وَجُثَثَهُمْ وَأَوْصَالَهُمْ، لَا كُفْرَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ، وَلَا أَنْسَابَهُمْ وَأَحْسَابَهُمْ، وَلَا حِلْمَهُمْ وَسَفَهَهُمْ، وَلَا طَاعَتَهُمْ وَمَعْصِيَتَهُمْ، وَلَا يَقِينَهُمْ وَشَكَّهُمْ، وَلَا تَوْحِيدَهُمْ وَشِرْكَهُمْ، وَلَا جَوْرَهُمْ وَعَدْلَهُمْ، وَلَا عِلْمَهُمْ وَجَهْلَهُمْ، فَأَخْبَرَتْنَا عَنْ هَذِهِ الْجُثَثِ الْبَالِيَةِ وَالْأَبْدَانِ الْمُتَلَاشِيَةِ، وَالْأَوْصَالِ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَقَالَتْ هَذَا خَبْرُ مَا عِنْدِي. وَأَمَّا خَبْرُ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ، فَسَلُوا عَنْهَا كُتُبَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرُسُلَهُ الصَّادِقِينَ، وَخُلَفَاءَهُمُ الْوَارِثِينَ، سَلُوا الْقُرْآنَ فَعِنْدَهُ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، وَسَلُوا مَنْ جَاءَ بِهِ فَهُوَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ الْعَارِفِينَ، وَسَلُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فَهُمَا الشَّاهِدَانِ الْمَقْبُولَانِ، وَسَلُوا الْعُقُولَ وَالْفِطَرَ فَعِنْدَهَا حَقِيقَةُ الْخَبَرِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تَعَالَى اللَّهُ- أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ- عَنْ هَذَا الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ. ثُمَّ قَالَ: النَّاظِرُ فِي هَذَا الْبَابِ رَجُلَانِ، رَجُلٌ يَنْظُرُ إِلَى الْأَشْيَاءِ، وَرَجُلٌ يَنْظُرُ فِي الْأَشْيَاءِ، فَالْأَوَّلُ: يَحَارُ فِيهَا، فَإِنَّ صُوَرَهَا وَأَشْكَالَهَا وَتَخَاطِيطَهَا تَسْتَفْرِغُ ذِهْنَهُ وَحِسَّهُ، وَتُبَدِّدُ فِكْرَهُ وَقَلْبَهُ، فَنَظَرُهُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ حِسِّهِ، لَا يُفِيدُهُ مِنْهَا ثَمَرَةَ الِاعْتِبَارِ، وَلَا زُبْدَةَ الِاخْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَقَدَ الِاعْتِبَارَ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ فَقَدَ الِاخْتِيَارَ ثَانِيًا. وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي الْأَشْيَاءِ: فَإِنَّ نَظَرَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْعُبُورِ مِنْ صُوَرِهَا إِلَى حَقَائِقِهَا وَالْمُرَادِ بِهَا، وَمَا اقْتَضَى وُجُودُهَا مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْعِلْمِ التَّامِّ، فَيُفِيدُهُ هَذَا النَّظَرُ تَمْيِيزَ مَرَاتِبِهَا، وَمَعْرِفَةَ نَافِعِهَا مِنْ ضَارِّهَا، وَصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَبَاقِيهَا مِنْ فَانِيهَا، وَقِشْرِهَا مِنْ لُبِّهَا، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْوَسِيلَةِ وَالْغَايَةِ، وَبَيْنَ وَسِيلَةِ الشَّيْءِ وَوَسِيلَةِ ضِدِّهِ، فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ أَنَّ الدُّنْيَا قِشْرُهُ وَالْآخِرَةَ لُبُّهُ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَحَلُّ الزَّرْعِ، وَالْآخِرَةَ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَعْبَرٌ وَمَمَرٌّ، وَالْآخِرَةَ دَارُ مُسْتَقَرٍّ. وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الدُّنْيَا طَرِيقٌ وَمَمَرٌّ كَانَ حَرِيًّا بِتَهْيِئَةِ الزَّادِ لِقَرَارِهِ، وَيَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِلِاسْتِيطَانِ وَالْخُلُودِ، وَلَكِنْ لِلْجَوَازِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، هُوَ الْمَنْزِلُ وَالْمُتَبَوَّأُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ دُعِيَ إِلَى ذَلِكَ بِكُلِّ شَرِيعَةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَبِكُلِّ إِشَارَةٍ وَدَلِيلٍ، وَنُصِبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ عِلْمٌ، وَضُرِبَ لِأَجَلِهِ كُلُّ مَثَلٍ، وَنُبِّهَ عَلَيْهِ بِنَشْأَتِهِ الْأُولَى وَمَبَادِئِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَأَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، بِحَيْثُ أُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وَأُوْضِحَتْ لَهُ الْمَحَجَّةُ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَأُعْذِرَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِعْذَارِ، وَأُمْهِلَ أَتَمَّ الْإِمْهَالِ، فَاسْتَبَانَ لِذِي الْعَقْلِ الصَّحِيحِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أَنَّ الظَّعْنَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ ضَرُورِيٌّ، وَالِانْتِقَالَ عَنْهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَأَنَّ لَهُ مَحَلًّا آخَرَ لَهُ قَدْ أُنْشِئَ وَلِأَجْلِهِ قَدْ خُلِقَ وَلَهُ هُيِّئَ، فَمَصِيرُهُ إِلَيْهِ وَقُدُومُهُ بِلَا رَيْبٍ عَلَيْهِ، وَأَنَّ دَارَهُ هَذِهِ مَنْزِلُ عُبُورٍ، لَا مَنْزِلُ قَرَارٍ. وَبِالْجُمْلَةِ: مَنْ نَظَرَ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَحْدَهَا: وَجَدَهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى أَكْمَلَ مِنْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالْمَنَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقَظَةِ، وَكَالظِّلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّخْصِ، وَسَمِعَهَا كُلَّهَا تُنَادِي بِمَا نَادَى بِهِ رَبُّهَا وَخَالِقُهَا وَفَاطِرُهَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وَتُنَادِي بِلِسَانِ الْحَالِ، بِمَا نَادَى بِهِ رَبُّهَا بِصَرِيحِ الْمَقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} وقال تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقال تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ثُمَّ نَدَبَهُمْ إِلَى الْمُسَابَقَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا.: فَقَالَ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. وَسَمِعَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ عَنْ بَعْضِ الزَّنَادِقَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ- وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُتَطَبِّبُ-: لَعَمْرِيَ مَا أَدْرِي وَقَدْ أَذِنَ الْبِلَى *** بِعَاجِلِ تِرْحَالِي إِلَى أَيْنَ تِرْحَالِـي وَأَيْنَ مَحَلُّ الرُّوحِ بَعْدَ خُرُوجِـهِ *** عَنِ الْهَيْكَلِ الْمُنْحَلِّ وَالْجَسَدِ الْبَالِي فَقَالَ: وَمَا عَلَيْنَا مِنْ جَهْلِهِ، إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيْنَ تِرْحَالُهُ؟ وَلَكِنَّنَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ تِرْحَالُنَا وَتِرْحَالُهُ، أَمَّا تِرْحَالُهُ فَإِلَى دَارِ الْأَشْقِيَاءِ، وَمَحِلِّ الْمُنْكِرِينَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَالْمُكَذِّبِينَ بِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْمُرْسَلِينَ عَنْ رَبِّهِمْ {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقالوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}. وَأَمَّا تِرْحَالُنَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُصَدِّقُونَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِلَى نَعِيمٍ دَائِمٍ، وَخُلُودٍ مُتَّصِلٍ، وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَأَقْدَرِ الْقَادِرِينَ، وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، الْأَوَّلُ بِالْحَقِّ، الْمَوْجُودُ بِالضَّرُورَةِ، الْمَعْرُوفُ بِالْفِطْرَةِ، الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ الْعُقُولُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَوْجُودَاتُ، وَشَهِدَتْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَقَرَّتْ بِهَا الْفِطَرُ، الْمَشْهُودُ وَجُودُهُ وَقَيُّومِيَّتُهُ بِكُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، بِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، وَبَثَّ بِهِ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالِهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرِينِ حَاجِزًا} الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ إِذَا نَادَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيُفَرِّجُ الْكُرُبَاتِ، وَيُقِيلُ الْعَثَرَاتِ، الَّذِي يَهْدِي خَلْقَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، فَيُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْقَطْرِ، الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَيَرْزُقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ خَلْقِهِ وَعَبِيدِهِ، الَّذِي يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، وَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الْمُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى كُلِّ نَائِبَةٍ وَفَادِحَةٍ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهُ كُلُّ بِرٍّ وَكَرَامَةٍ، الَّذِي عَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ، وَخَشَعَتْ لَهُ الْأَصْوَاتُ، وَسَبَّحَتْ بِحَمْدِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ، الَّذِي لَا تَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ إِلَّا بِحُبِّهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا تَزْكُو الْعُقُولُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُدْرَكُ النَّجَاحُ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ، وَلَا تَحْيَا الْقُلُوبُ إِلَّا بِنَسِيمِ لُطْفِهِ وَقُرْبِهِ، وَلَا يَقَعُ أَمْرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَهْتَدِي ضَالٌّ إِلَّا بِهِدَايَتِهِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ ذُو أَوَدٍ إِلَّا بِتَقْوِيمِهِ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ إِلَّا بِتَفْهِيمِهِ، وَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يُحْفَظُ شَيْءٌ إِلَّا بِكِلَاءَتِهِ، وَلَا يُفْتَتَحُ أَمْرٌ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِحَمْدِهِ، وَلَا يُدْرَكُ مَأْمُولٌ إِلَّا بِتَيْسِيرِهِ، وَلَا تُنَالُ سَعَادَةٌ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلَا حَيَاةٌ إِلَّا بِذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَا طَابَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا بِسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ، الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَضْلًا وَبِرًّا. فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَالرَّبُّ الْحَقُّ، وَالْمَلِكُ الْحَقُّ، وَالْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، الْمُبَرَّأُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لَا يَبْلُغُ الْمُثْنُونَ- وَإِنِ اسْتَوْعَبُوا جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الثَّنَاءِ- ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ ثَنَاؤُهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الْجَارُ. وَأَمَّا الدَّارُ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ حُسْنَهَا وَبَهَاءَهَا، وَسِعَتَهَا وَنَعِيمَهَا، وَبَهْجَتَهَا وَرُوحَهَا وَرَاحَتَهَا، فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، فَهِيَ الْجَامِعَةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَسَرَّاتِ، الْخَالِيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمُنَكِّدَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مُشَيَّدٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ. فَتِرْحَالُنَا أَيُّهَا- الصَّادِقُونَ الْمُصَدِّقُونَ- إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بِإِذْنِ رَبِّنَا وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَتِرْحَالُ الْكَاذِبِينَ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلِقَائِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. وَلَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ- الطَّالِبِينَ لِمَرْضَاتِهِ، السَّاعِينَ فِي طَاعَتِهِ، الدَّائِبِينَ فِي خِدْمَتِهِ، الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ- وَبَيْنَ الْمُلْحِدِينَ- السَّاعِينَ فِي مَسَاخِطِهِ، الدَّائِبِينَ فِي مَعْصِيَتِهِ، الْمُسْتَفْرِغِينَ جُهْدَهُمْ فِي أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ- فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ وَالْعُبُورِ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَحَاشَاهُ مِنْ هَذَا الظَّنِّ السَّيِّئِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَأَنَّهَا أَكْمَلُ مِنْ حَيَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَتَمُّ وَأَطْيَبُ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْسَادُهُمْ مُتَلَاشِيَةً، وَلُحُومُهُمْ مُتَمَزِّقَةً، وَأَوْصَالُهُمْ مُتَفَرِّقَةً، وَعِظَامُهُمْ نَخِرَةً، فَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى الطَّلَلِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي السَّاكِنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} وَإِذَا كَانَ الشُّهَدَاءُ إِنَّمَا نَالُوا هَذِهِ الْحَيَاةَ بِمُتَابَعَةِ الرُّسُلِ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاةِ الرُّسُلِ فِي الْبَرْزَخِ؟ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: فَالْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ *** وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِي فَلِلرُّسُلِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ- الَّتِي هِيَ يَقْظَةٌ مِنْ نَوْمِ الدُّنْيَا- أَكْمَلُهَا وَأَتَمُّهَا، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاةِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَكُونُ شَوْقُهُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَسَعْيُهُ وَحِرْصُهُ عَلَى الظَّفَرِ بِهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا الْمُشَمِّرُونَ، وَسَابَقَ إِلَيْهَا الْمُتَسَابِقُونَ، وَنَافَسَ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ، وَهِيَ الَّتِي أَجْرَيْنَا الْكَلَامَ إِلَيْهَا، وَنَادَتِ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ وَرُسُلُ اللَّهِ جَمِيعُهُمْ عَلَيْهَا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ مَنْ فَاتَهُ الِاسْتِعْدَادُ لَهَا {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. وَالْحَيَاةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَالنَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ- مِنْ وَصْفِ السَّيْرِ وَمَنَازِلِهِ، وَأَحْوَالِ السَّائِرِينَ، وَعُبُودِيَّتِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ- فَوَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟. وَكَمَا قِيلَ: تَنَفَّسَتِ الْآخِرَةُ فَكَانَتِ الدُّنْيَا نَفَسًا مِنْ أَنْفَاسِهَا، فَأَصَابَ أَهْلُ السَّعَادَةِ نَفَسَ نَعِيمِهَا، فَهُمْ عَلَى هَذَا النَّفَسِ يَعْمَلُونَ، وَأَصَابَ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ نَفَسَ عَذَابِهَا، فَهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّفَسِ يَعْمَلُونَ. وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاتِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ، وَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنْ سِجْنِ الدُّنْيَا وَضِيقِهَا؟ فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاتِهِمْ فِي دَارِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَهُمْ يَرَوْنَ وَجْهَ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ؟ فَإِنْ قُلْتَ: مَا سَبَبُ تَخَلُّفِ النَّفْسِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي لَا خَطَرَ لَهَا، وَمَا الَّذِي زَهَّدَهَا فِيهَا؟ وَمَا سَبَبُ رَغْبَتِهَا فِي الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ، الَّتِي هِيَ كَالْخَيَالِ وَالْمَنَامِ؟ أَفَسَادٌ فِي تَصَوُّرِهَا وَشُعُورِهَا؟ أَمْ تَكْذِيبٌ بِتِلْكَ الْحَيَاةِ؟ أَمْ لِآفَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَعَمًى هُنَاكَ؟ أَمْ إِيثَارٌ لِلْحَاضِرِ الْمَشْهُودِ بِالْعِيَانِ عَلَى الْغَائِبِ الْمَعْلُومِ بِالْإِيمَانِ؟ قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ: ضَعْفُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا، وَالْآمِرُ بِأَحْسَنِهَا، وَالنَّاهِي عَنْ أَقْبَحِهَا، وَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ لِصَاحِبِهِ، وَائْتِمَارُ صَاحِبِهِ وَانْتِهَاؤُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. وَبِالْجُمْلَةِ: فَإِذَا قَوِيَ الْإِيمَانُ قَوِيَ الشَّوْقُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَاشْتَدَّ طَلَبُ صَاحِبِهِ لَهَا. السَّبَبُ الثَّانِي: جُثُومُ الْغَفْلَةِ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْغَفْلَةَ نَوْمُ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْأَيْقَاظِ فِي الْحِسِّ نِيَامًا فِي الْوَاقِعِ، فَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ، ضِدَّ حَالِ مَنْ يَكُونُ يَقْظَانَ الْقَلْبِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا قَوِيَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ لَا يَنَامُ إِذَا نَامَ الْبَدَنُ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَنْ أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ بِمَحَبَّتِهِ وَاتِّبَاعِ رِسَالَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ نَصِيبِهِ مِنْهُمَا. فَالْغَفْلَةُ وَالْيَقَظَةُ يَكُونَانِ فِي الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالْقَلْبِ، فَمُسْتَيْقِظُ الْقَلْبِ وَغَافِلُهُ كَمُسْتَيْقِظِ الْبَدَنِ وَنَائِمِهِ، وَكَمَا أَنَّ يَقَظَةَ الْحِسِّ عَلَى نَوْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ يَقَظَةُ الْقَلْبِ عَلَى نَوْعَيْنِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ يَقَظَةِ الْحِسِّ: أَنَّ صَاحِبَهَا يَنْفُذُ فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَتَوَغَّلُ فِيهَا بِكَسْبِهِ وَفَطَانَتِهِ، وَاحْتِيَالِهِ وَحُسْنِ تَأَتِّيهِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُقْبِلَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَذَاتِهِ، فَيَعْتَنِي بِتَحْصِيلِ كَمَالِهِ، فَيَلْحَظُ عَوَالِيَ الْأُمُورِ وَسَفْسَافَهَا، فَيُؤْثِرُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، وَيُقَدِّمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَيَرْتَكِبُ أَخَفَّ الشَّرَّيْنِ خَشْيَةَ حُصُولِ أَقْوَاهُمَا، وَيَتَحَلَّى بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الشِّيَمِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ جَمِيلًا، وَبَاطِنُهُ أَجْمَلُ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَسَرِيرَتُهُ خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَتِهِ، فَيُزَاحِمُ أَصْحَابَ الْمَعَالِي عَلَيْهَا كَمَا يَتَزَاحَمُ أَهْلُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ عَلَيْهِمَا، فَبِهَذِهِ الْيَقَظَةِ يَسْتَعِدُّ لِلنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْهُمَا. أَحَدُهُمَا: يَقَظَةٌ تَبْعَثُهُ عَلَى اقْتِبَاسِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَا خَطَرَ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ الْفَانِيَةِ، الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا. فَإِنْ قُلْتَ: مَثِّلْ لِي كَيْفَ تُقْتَبَسُ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ مِنَ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ فَإِنِّي لَا أَفْهَمُهُ. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ نَوْمِ الْقَلْبِ بَلْ مِنْ مَوْتِهِ، وَهَلْ تُقْتَبَسُ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ؟ وَأَنْتَ قَدْ تُشْعِلُ سِرَاجَكَ مِنْ سِرَاجٍ آخَرَ قَدْ أَشَفَى عَلَى الِانْطِفَاءِ، فَيَتَّقِدُ الثَّانِي وَيُضِيءُ غَايَةَ الْإِضَاءَةِ، وَيَتَّصِلُ ضَوْءُهُ وَيَنْطَفِئُ الْأَوَّلُ، وَالْمُقْتَبِسُ لِحَيَاتِهِ الدَّائِمَةِ مِنْ حَيَاتِهِ الْمُنْقَطِعَةِ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ دَارٍ مُنْقَطِعَةٍ إِلَى دَارٍ بَاقِيَةٍ، وَقَدْ تَوَسَّطَ الْمَوْتُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ، فَهُوَ قَنْطَرَةٌ لَا يُعْبَرُ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ إِلَّا عَلَيْهَا، وَبَابٌ لَا يُدْخَلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْهُ، فَهُمَا حَيَاتَانِ فِي دَارَيْنِ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ، وَكَمَا أَنَّ نُورَ تِلْكَ الدَّارِ مُقْتَبَسٌ مِنْ نُورِ هَذِهِ الدَّارِ، فَحَيَاتُهَا كَذَلِكَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَيَاتِهَا، فَعَلَى قَدْرِ نُورِ الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَكُونُ نُورُ الْعَبْدِ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ تَكُونُ حَيَاتُهُ هُنَاكَ. نَعَمْ؛ هَذَا النُّورُ وَالْحَيَاةُ الَّذِي يُقْتَبَسُ مِنْهُ ذَلِكَ النُّورُ وَالْحَيَاةُ لَا يَنْقَطِعُ، بَلْ يُضِيءُ لِلْعَبْدِ فِي الْبَرْزَخِ وَفِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى الصِّرَاطِ، فَلَا يُفَارِقُهُ إِلَى دَارِ الْحَيَوَانِ، يُطْفَأُ نُورُ الشَّمْسِ وَهَذَا النُّورُ لَا يُطْفَأُ، وَتَبْطُلُ الْحَيَاةُ الْمَحْسُوسَةُ وَهَذِهِ الْحَيَاةُ لَا تَبْطُلُ، هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ يَقَظَةِ الْقَلْبِ. النَّوْعُ الثَّانِي: يَقَظَةٌ تَبْعَثُ عَلَى حَيَاةٍ، لَا تُدْرِكُهَا الْعِبَارَةُ، وَلَا يَنَالُهَا التَّوَهُّمُ، وَلَا يُطَابِقُ فِيهَا اللَّفْظُ لِمَعْنَاهُ أَلْبَتَّةَ، وَالَّذِي يُشَارُ بِهِ إِلَيْهَا حَيَاةُ الْمُحِبِّ مَعَ حَبِيبِهِ الَّذِي لَا قِوَامَ لِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَحَيَاتِهِ إِلَّا بِهِ وَلَا غِنًى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا قُرَّةَ لِعَيْنِهِ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ لِقَلْبِهِ، وَلَا سُكُونَ لِرُوحِهِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ وَمِنْ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ حَيَاتَهُ بِدُونِهِ عَذَابٌ وَآلَامٌ، وَهُمُومٌ وَأَحْزَانٌ، فَحَيَاتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى قُرْبِهِ وَحُبِّهِ وَمُصَاحَبَتِهِ، وَعَذَابُ حِجَابِهِ عَنْهُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَذَابِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ نَعِيمَ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْحِجَابِ أَعْظَمُ مِنَ النَّعِيمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالْحُورِ الْعِينِ، فَهَكَذَا عَذَابُ الْحِجَابِ أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: رُؤْيَةُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَجَمَعَ لِأَعْدَائِهِ بَيْنَ الْعَذَابَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمَ}. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْغَفْلَةَ مَعْنَاهَا هِيَ نَوْمُ الْقَلْبِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ حِجَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كُشِفَ هَذَا الْحِجَابَ بِالذِّكْرِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ بِطَالَةٍ وَلَعِبٍ وَاشْتِغَالٍ بِمَا لَا يُفِيدُ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ مَعَاصٍ وَذُنُوبٍ صِغَارٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ كَبَائِرٍ تُوجِبُ مَقْتَ الرَّبِّ تَعَالَى لَهُ وَغَضَبَهُ وَلَعْنَتَهُ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى صَارَ حِجَابَ بِدَعٍ عَمَلِيَّةٍ يُعَذِّبُ الْعَامِلُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَلَا تُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى صَارَ حِجَابَ بِدَعٍ قَوْلِيَّةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ؛ تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى صَارَ حِجَابَ شَكٍّ وَتَكْذِيبٍ؛ يَقْدَحُ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ، فَلِغِلَظِ حِجَابِهِ وَكَثَافَتِهِ وَظُلْمَتِهِ وَسَوَادِهِ لَا يَرَى حَقَائِقَ الْإِيمَانِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ، يَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ تَهْوَى وَتَشْتَهِي، وَسُلْطَانُ الطَّبْعِ قَدْ ظَفِرَ بِسُلْطَانِ الْإِيمَانِ، فَأَسَرَهُ وَسَجَنَهُ إِنْ لَمْ يُهْلِكْهُ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَ الْمَمْلَكَةِ وَاسْتِخْدَامَ جُنُودِ الشَّهَوَاتِ، وَأَقْطَعَهَا الْعَوَائِدَ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ، وَأَغْلَقَ بَابَ الْيَقَظَةِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَوَّابَ الْغَفْلَةِ، وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلِكَ، وَاتَّخَذَ حَاجِبًا مِنَ الْهَوَى، وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تُمَكِّنَ أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَيَّ إِلَّا مَعَكَ، فَأَمْرُ هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ قَدْ صَارَ إِلَيْكَ وَإِلَى الْبَوَّابِ، فَيَا بَوَّابَ الْغَفْلَةِ، وَيَا حَاجِبَ الْهَوَى لِيَلْزَمْ كُلٌّ مِنْكُمَا ثَغْرَهُ، فَإِنْ أَخْلَيْتُمَا فَسَدَ أَمْرُ مَمْلَكَتِنَا، وَعَادَتِ الدَّوْلَةُ لِغَيْرِنَا، وَسَامَنَا سُلْطَانُ الْإِيمَانِ شَرَّ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، وَلَا نَفْرَحُ بِهَذِهِ الْمَدِينَةِ أَبَدًا. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الْقَلْبِ هَذِهِ الْعَسَاكِرُ مَعَ رِقَّةِ الْإِيمَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْوَانِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ، وَطُولِ الْأَمَلِ الْمُفْسِدِ لِلْإِنْسَانِ- أَنْ آثَرَ الْعَاجِلَ الْحَاضِرَ عَلَى الْغَائِبِ الْمَوْعُودِ بِهِ بَعْدَ طَيِّ هَذِهِ الْأَكْوَانِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. فَهَذَا فَصْلٌ مُخْتَصَرٌ نَافِعٌ فِي ذِكْرِ الْحَيَاةِ وَأَنْوَاعِهَا، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى أَشْرَفِهَا وَأَطْيَبِهَا، فَمَنْ صَادَفَ مِنْ قَلْبِهِ حَيَاةً انْتَفَعَ بِهِ، وَإِلَّا فَخُودٌ تُزَفُّ إِلَى ضَرِيرٍ مُقْعَدٍ. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ: قَالَ: وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الْخَوْفِ، وَنَفَسُ الرَّجَاءِ، وَنَفَسُ الْمَحَبَّةِ. لَمَّا كَانَ لِكُلِّ حَيَوَانٍ مُتَنَفَّسًا، فَإِنَّ النَّفَسَ مُوجِبُ الْحَيَاةِ وَعَلَامَتُهَا، كَانَتْ أَنْفَاسُ الْحَيَاةِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الْخَوْفِ؛ وَمَصْدَرُهُ: مُطَالَعَةُ الْوَعِيدِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِمَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْمَخْلُوقَ عَلَى الْخَالِقِ، وَالْهَوَى عَلَى الْهُدَى، وَالْغَيَّ عَلَى الرَّشَادِ. وَنَفَسُ الرَّجَاءِ؛ وَمَصْدَرُهُ مُطَالَعَةُ الْوَعْدِ، وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَمَا اللَّهُ أَعَدَّ لِمَنْ آثَرَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَحَكَّمَ الْهُدَى عَلَى الْهَوَى، وَالْوَحْيَ عَلَى الْآرَاءِ، وَالسُّنَّةَ عَلَى الْبِدْعَةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عَوَائِدِ الْخَلْقِ. وَنَفَسٌ بِالْمَحَبَّةِ؛ مَصْدَرُهُ مُطَالَعَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَمُشَاهَدَةُ النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ. فَإِذَا ذَكَرَ ذُنُوبَهُ تَنَفَّسَ بِالْخَوْفِ، وَإِذَا ذَكَرَ رَحْمَةَ رَبِّهِ وَسَعَةَ مَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ تَنَفَّسَ بِالرَّجَاءِ، وَإِذَا ذَكَرَ جَمَالَهُ وَجَلَالَهُ وَكَمَالَهُ وَإِحْسَانَهُ وَإِنْعَامَهُ تَنَفَّسَ بِالْحُبِّ. فَلْيَزِنِ الْعَبْدُ إِيمَانَهُ بِهَذِهِ الْأَنْفَاسِ الثَّلَاثَةِ، لِيَعْلَمَ مَا مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى حُبِّ الْجَمَالِ وَالْإِجْمَالِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيلٌ، بَلْ لَهُ الْجَمَالُ التَّامُّ الْكَامِلُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ- جَمَالُ الذَّاتِ، وَجَمَالُ الصِّفَاتِ، وَجَمَالُ الْأَفْعَالِ، وَجَمَالُ الْأَسْمَاءِ- وَإِذَا جُمِعَ جَمَالُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ كَانَتْ جَمِيعُهَا عَلَى جَمَالِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، ثُمَّ نُسِبَ هَذَا الْجَمَالُ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ. فَالنَّفَسُ الصَّادِرُ عَنْ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ وَالْمُطَالَعَةِ أَشْرَفُ أَنْفَاسِ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَأَيْنَ نَفَسُ الْمُشْتَاقِ الْمُحِبِّ الصَّادِقِ إِلَى نَفَسِ الْخَائِفِ الرَّاجِي؟ وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا النَّفَسُ إِلَّا بِتَحْصِيلِ ذَيْنِكَ النَّفْسَيْنِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا ثَمَرَةُ تَرْكِهِ لِلْمُخَالَفَاتِ، وَالثَّانِي: ثَمَرَةُ فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ، فَمِنْ هَذَيْنِ النَّفَسَيْنِ يَصِلُ إِلَى النَّفَسِ الثَّالِثِ.
|